لقد واجهت الرسل تلك المحاولة من التشكيك في الدعوة ذاتها لهذه الحقيقة اليقينية، فقالت:((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ))، وفي تفسيرها قولان: الأول: أفي وجود الله شك؟ وهذا وجه ليس بظاهر؛ إذ عامة الأمم كانت تقر بوجود الله، وإنما تنازع في إلهيته وحده لا شريك له، وتنازع في أنه وحده الإله المعبود، فكانوا يجعلون آلهة معه، ومنكرو الربوبية قليل.
الثاني: أفي وحدانية الله في الربوبية والإلهية شك؟ وهذا أظهر، وهو متضمن للأول؛ لأنه إذا قررنا وحدانية الله عز وجل رباً وإلهاً فهذا يتضمن إثبات وجوده بالأولى والقطع واليقين، وهذه الحقيقة هي أكبر اليقينيات، ولا يمكن أن يستريب فيها عاقل؛ لأن كل عاقل يوقن أن كل فعل لابد له من فاعل، وإذا رأى آثار الإحكام والإتقان على الصنعة فلا بد من أن يسلم بكون الصانع عالماً حكيماً قادراً، قد أتقن كل شيء صنعه، ولا بد من أن يكون له كل صفات الكمال، ومن ثم فهو وحده الذي يستحق أن يعبد، وهذه هي كبرى اليقينيات التي استقرت في نفوس البشر، ويحتاجون إليها أكثر من الماء والهواء، ويجدونها كالماء والهواء، فكل من أخذ نفساً وجدها كما يجد الهواء، كما قال موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون:{رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ}[الشعراء:٢٤]، فهذه أعظم اليقينيات، فمن كان موقناً بشيء فليوقن بوحدانية الله، وأنه رب السموات والأرض وما بينهما، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد.
وقولهم:((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) هو دليل توحيد الإلوهية، فقد استدلوا عليه بتوحيد الربوبية، فهو سبحانه وتعالى وحده الذي فطر السموات والأرض، أي: خلقهن على غير مثال سابق، ولا يمكن أن يقبل عقل إنسان أن السموات والأرض خلقن من غير خالق، ولا يقبل عقله بعد ذلك أن تصرف العبادة لغير خالقهن ولغير خالق العباد، فإذا قبلت أن هذه المخلوقات لابد لها من خالق، وقررت أن له صفة الكمال فلا بد من أن تقرر وتعتقد أنه لا يعبد سواه، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:٢١]، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، وتوحيد الرب في أفعاله التي آثارها ظاهرة جلية في الكون -من هذه المخلوقات، وهذه الصنعة المتقنة المحكمة وكل ما في السموات والأرض من آيات- أعظم دليل على أنه وحده الذي يستحق أن يركع له ويسجد، وأنه وحده الذي يرجى ويخاف، ويحب ويتوكل عليه، ويخضع له ويذل، ويرجى فضله وترهب عقوبته، ويتحاكم إلى شرعه.
ثم قال تعالى حكاية عن الرسل:((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ))، وهذا هو الدليل الثاني، وهو: الرحمة والمغفرة والمحبة، وهذا دليل قد جربه الرسل، فذاقوا أعظم ما في الدنيا من لذة، حيث جربوا أنهم إذا تابوا إلى الله وقبلوا دعوته غفر لهم ذنوبهم، تلك الذنوب التي كانت ظلمات على القلوب، فلا تجعلها ترى حقائق هذا الوجود، ولا تجعلها تدرك صغر الدنيا وحقارة الأرض وما فيها، وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وكانت هذه الذنوب تحول بين القلوب وبين خالقها وبارئها، وبين من فطرت على محبته والشوق إليه، فلما زالت الذنوب بالمغفرة من عند الله عز وجل ازداد أثرها، فوجدت القلوب أعظم ما يمكن أن يوجد في هذا الكون، وهو الشوق إلى الله ومحبته والرضى به رباً وإلهاً، كما قال صلى الله عليه وسلم:(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)، هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، وهو دليل -كما ذكرنا- جربه الرسل، فقد جربوا طريق المحبة؛ لأن الذنوب حواجز تحجز القلوب، وران عليها، فلا ترى الحقائق ولا تشعر بها، فلما غفرت الذنوب واستجابت القلوب لدعوة الله -التي يدعوا بها عباده- وجدت عند ذلك شيئاً جديداً لم تكن ذاقته من قبل، وعرفت الطريق إلى الله، كما قال شعيب عليه السلام:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}[هود:٩٠]، فذكره سبحانه عند طلب الاستغفار منهم بذكر اسمه عز وجل (الرب) مضافاً إلى ضمير المخاطبين، فقال:(ربكم)، وأما عند ذكر وده ورحمته فنسبه إلى ضمير المتكلم، فقال:((إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)) وهكذا قالها صالح عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود:٦١] فقد جرب الطريق، وعرف حب الله سبحانه وتعالى، ولذلك دعت الرسل أقوامهم إلى أن يستجيبوا لدعوة الله فقالت:((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ))، وهذا يرقق القلب، فالله يريد بك الخير، ويريد لك أن تغفر ذنوبك، وأن تستجاب دعوتك، والله عز وجل لا يريد لك الشقاء، والعجب أن فئة من الناس تظن أنها سوف تحرم -إذا التزمت- من لذة الدنيا، ونقول: لا، بل سوف تضاعف هذه اللذات، فهم ما جربوا الطريق، لذلك يرفضونه ويبتعدون عنه، ولو جربوه لذاقوا حلاوته، وعندما تخالط بشاشة الإيمان القلوب فإنها لا ترضى عنه بديلاً.
ثم قال تعالى:((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى))، فلو آمنتم فإنه سيمتعكم متاعاً حسناً، والله عز وجل علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله عز وجل:{َإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:٣٤]؛ لأن الذي لا يتأخر ولا يتقدم هو الأجل الذي في علم الله، وهو في اللوح المحفوظ، وأما ما لم يكن فهذا أجل مسمىً آخر، فعند الله عز وجل علم أنهم لو آمنوا لمتعهم الله، كما قال سبحانه وتعالى عن قوم يونس {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[يونس:٩٨]، وكان هذا أمراً مقدراً أيضاً، والله سبحانه وتعالى كل شيء عنده بمقدار، وقد علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فلو أنهم آمنوا لكان لهم مصير آخر، وهو المتاع إلى أجل مسمى عنده عز وجل.