للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غضب موسى من ضلال قومه]

قال تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:٨٥] وإذا بسيدنا موسى يصاب بحالة غضب وأسف، وحزن شديد جداً، كما قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:١٥٠]، والعجيب أنهم ما كانوا متمسكين بالعقيدة كتمسكهم بسيدنا موسى، فأخذ سيدنا موسى العجل وحرقه ونفثه في البحر، وهم سامعون مطيعون، وسيدنا هارون قد قال لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:٩٠]، وكادوا يقتلونه والعياذ بالله وقالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:٩١] وإذا بسيدنا موسى من شدة الغضب يريد أن يعمل شيئاً، فأمسك بأخيه هارون؛ لأنه كان في ظنه أن هارون مقصر، ولم ينصح القوم مع أنه نبي مثله ورسول، فألقى الألواح ليتفرغ لذلك، ولم يلقها إهانة لها، بل ألقاها كشخص في يده شيء، ويريد أن يتخاصم مع شخص فيرى ما في يده، وما فعله موسى كان غضباً لله عز وجل، كيف أن سيدنا هارون تركهم، (وأخذ بلحيته) وكان سيدنا موسى قوياً، فإذا به يجره إليه من شدة غضبه لله عز وجل، وسيدنا هارون أكبر منه سناً، لكن من شدة الغضب لله عز وجل، فعل ذلك {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:٩٢ - ٩٣]، وسيدنا هارون كان لديه طريقة جميلة للرد (قال يبنؤم) أي: أنه ابن أبيه وأمه، ولكن تذكيره له بصلة الرحم من جهة الأم هنا أنسب؛ لأن الأم الرقيقة الحنونة التي رعت سيدنا موسى وضحت من أجله، وفي سورة الأعراف: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:١٥٠]، فكان بهذه الطريقة أن سكن غضب موسى، ودعا واستغفر لأخيه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف:١٥١]، فبدأ بنفسه؛ لأنه هو الذي أخذ أخاه وجره إليه، وقد قال له هارون: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)).

وأتى له بعدة أعذار منها: أنهم كادوا أن يقتلوه ((إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) ومنها: لكيلا يشمت به الأعداء ((فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ)) ومنها: عملك هذا سوف يجعلهم يقولون: إني ظالم، وأنا لم أظلم، ((وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) فلا تعاملني معاملة الظلمة، ومنها كما في سورة طه: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:٩٤] فموسى لو كان مكان هارون فسوف يأخذ المؤمنين ويترك الكفرة، فرأى سيدنا هارون أن المصلحة تقتضي أن يجعل بني إسرائيل في مكان واحد، لا أن يتفرقوا، وهو قد دعاهم إلى الله، والله قد شهد له أنه بلغ، كما قال: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} [طه:٩٠]، فهو لم يقصر في الدعوة، ولا في إنكار المنكر، ولكنهم لم يستجيبوا له، ولديهم تبعية عجيبة لسيدنا موسى، وتبعية لما يقولونه حيث يسمعوا كلامه في قتال الجبابرة، فسيدنا هارون أتى بحجج متعددة: عدم استجابة بني إسرائيل، وأنه مستضعف، وأنهم كاد أن يقتلوه، وأنه قد بلغهم فعلاً ولم يكن من الظالمين، وأنه يجوز إشمات الأعداء به، فهنا لان موسى عليه الصلاة والسلام، وخصوصاً عندما ذكره أنه ابن أمه، وهذه طريقة جميلة لتسكين غضب الأخ.