للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محاجة إبراهيم عليه السلام لقومه]

قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:٥٢]، فهو يسأل سؤال استنكار واستقباح لما يفعلونه من الاعتكاف وملازمة عبادة التماثيل، وهي إفك باطل مصنوع، كما قال في الآية الأخرى: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:٨٦ - ٨٧]، فدل ذلك على أنه يعرف الله عز وجل بأنه الحق، وأن ما يدعى من دونه هو الباطل، قال: ((مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ) أي: ما هذه الأصنام التي تصنعونها، وكانت تتخذ عندهم رموزاً لأنواع النجوم، فصاروا يعبدون هذه الأوثان من دون الله عز وجل.

إن هذه الأصنام قد أضلت كثيراً من الناس، وعبادتها قديمة جداً من عهد نوح عليه السلام، وهو أول زمن وقع فيه الشرك على هذه الأرض من بني آدم؛ وذلك بسبب الغلو والإفراط في محبة بعض الصالحين -وهذا سبب في ضلال الناس في الواقع الذي نعيشه- وبسبب بعدهم عما أوحى الله عز وجل من تفسير لهذا الوجود، وأنه خلق من خلق الله، فكان قوم إبراهيم يعبدون هذه الأصنام والتماثيل والأوثان على أنها ترمز للنجوم التي جعلوها وسائط بينهم وبين ربهم فعبدوها من دون الله.

قال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:٥٢ - ٥٣]، وهكذا أهل الباطل حجتهم التقليد بلا حجة بينة، والشرك لا تقبله الفطر، ولا تسلم به العقول، ولا ترضاه النفوس، بل هو مرض وداء، لا يمر بسهولة إلى قلب الإنسان، ومع ذلك فهو أكثر انتشاراً بسبب التقليد الأعمى، فقد وجدوا آباءهم على أمة فهم على آثارهم مقتدون، ولو تأملت عقائد البشر في المشارق والمغارب لوجدت عجباً لا يمكن أن يقبله أي عقل سليم، ومع ذلك تجد ملايين البشر يعتقدون هذه الاعتقادات الفاسدة، ويربون عليها أبناءهم، وسينشأ على ذلك أجيال تلو الأجيال، وإنه لمن العجب أن البشر يعبدوا حجراً صنعوه بأنفسهم! وكيف قبل الإنسان أن يعبد حيواناً يراه بهيمة لا تنطق أمامه؟! وكيف يعبد إنساناً مثله وهو يعلم أنه كان عدماً محضاً؟! يراه يأكل الطعام، ويدخل الخلاء، ويقضي حاجته، ويحتاج إلى الهواء والماء وسائر حاجات البشر، ومع ذلك تجد الدليل دائماً: التقليد الأعمى، وهو الذي يدفع الناس إلى ذلك، كما قال عز وجل عن ملكة سبأ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:٤٣]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود:١٠٩].

وهذا دائماً يدفع المؤمن إلى الحذر من التقليد المجرد عن الدليل، وأنه لا بد أن ينظر فيما نشأ عليه من قيم اجتماعية أو عادات أو تقاليد، ولا بد أن يزنها بميزان الشرع، وأن يكون مستعداً لمخالفة ما يعلم أنه خلاف الدليل، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، ولا يكون مقلداً تقليداً أعمى للآباء والأجداد، فقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣]، فهي ليست من حجة أهل الإيمان، وإنما هي من كلام أهل الباطل والكفر، فلا يتشبه بهم أهل الإسلام ولو في فروع دينهم، وإنما يسألون دائماً أهل الذكر عن الذكر إذا جهلوه، كما قال عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣]، وأهل الذكر هم: أهل العلم، والذكر هو: المنزل من عند الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]، فلا يُسأل أهل العلم عن رأي فلان ولا عن مذهب فلان، وإنما يُسألون عن الذكر الذي هم أهله والذي هم يعلمونه، وهذا من أوضح البيان.

فالواجب على العالم أن يجتهد في معرفة حكم الشرع، لا البحث عن الآراء المتناقضة، فينتقي منها أطيبها كما يشتهي، ويزعم للناس أنه يختار لهم الرأي الأسهل، فليس هذا بالطريق المرضي، فمن تتبع رخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، وعلى طالب العلم أن يأخذ من أقوال أهل العلم بالدليل، وعلى من لا يعلم أن يسأل أهل الذكر عما لا يعلم، فيسألهم عن حكم الشرع في أي مسألة تمر به.

والواجب على كل مسلم أن يتجنب التعصب الأعمى، فلا يتبع غيره على أمر قد بانت له فيه السنة، كما قال الشافعي رحمه الله: أجمع المسلمون على أن من استبانت له السنة لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، وإنما بين العلماء خطر التقليد حتى لا يقع الناس فيما وقع فيه الأسلاف والمتقدمون ممن عبدوا غير الله عز وجل بسبب التقليد.