للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النهي عن عبادة الشيطان]

وقوله: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:٤٤].

أكثر الخلق يعبدون الشيطان، وإن كانوا لا يظهرون ذلك، وربما لا يشعرون بذلك، فلا يوجد إلا قلة هي أقرب إلى المجانين لا بل إلى البهائم بل أسوأ من ذلك ممن يقرون بعبادة الشيطان صراحة! ولكن أكثر أهل الأرض يعبدون الشيطان بطاعته في الكفر، وبعبادة ما يأمرهم بعبادته من الأوثان، والأشخاص والآلهة الباطلة من دون الله، أو مع الله عز وجل تعالى الله عن شركهم علواً كبيراً.

فقوله: ((يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)) يعني: بطاعته في دعوته إلى الكفر، وكل من عبد غير الله فقد عبد الشيطان في الحقيقة؛ قال عز وجل: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:١١٧ - ١١٨] فهم عبدوا الشيطان حين أطاعوه فيما شرع لهم من الكفر والشرك، وكل عابد لغير الله ومكذب لأنبيائه الله ورسله وكتبه فهو عابد للشيطان؛ إذ هو الذي أمر بعبادة غير الله، وأمر بتكذيب الرسل، ولذلك كان كل كافر مشركاً، وكل مشرك كافراً؛ لأنه غير فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، فهناك تلازم بين الشرك والكفر، والله سبحانه وتعالى حذر بني آدم من عبادة الشيطان، ألا يعبدوه بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:٦٠ - ٦٢].

نسأل الله أن يعيذنا من عبادة الشيطان.

فكثير من الناس يسبه ويلعنه، ولكنه مطيع له وعابد.

كما أن أكثر الناس إذا اتبعوا أهواءهم ربما ينفون عن أنفسهم ذلك -أي: عبادة أهوائهم-، لكنهم طالما اتبعوا الهوى في الكفر كان ذلك عبادة له، كما قال عز وجل: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:٤٣]، وهذا كحال من يعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة مع أنهم يذمون طالب الرياسة، ويجعلونها مذمة، كما ذم قوم فرعون موسى وهارون بالباطل حين قالوا لهما: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:٧٨]، فهما بزعمهم يريدان الكبرياء، وهذه مذمة، مع أن قوم فرعون هم الذين يريدون الكبرياء.

وأهل الرياسة والملك هم الذين يريدون الملك والرياسة ويقتتلون من أجل ذلك، ومع ذلك يذمون من يريد الملك والرياسة، ويزعمون أنهم لا يريدونها إلا لمصلحة الناس، ومن أجل أن يحافظوا على الطريقة المثلى، ووالله! ما هي بمثلى، ولكن هذا شأن هؤلاء القوم الذين يعبدون الشياطين، وفي نفس الوقت يذمونها.

ويعبدون الأهواء، ويزعمون التبرؤ من الهوى.

ويعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة ويذمون من يريد ذلك، ويقولون: هذا إنسان تابع للمال، ويشترى بالمال، ويذمون المال، ويقولون: نحن لا نحبه، مع أنهم يقتتلون من أجله، فهؤلاء لا يغني تبرؤهم عنهم شيئاً.

وكونهم لا يسمونها عبادة مع كونها عبادة لا يغني عنهم شيئاً، ولذا كان من يعبد غير الله من الأموات وإن لم يسم فعله عبادة يعبد عابداً لهم، كما أن من يعبد غير الله من الكبراء والأحبار والرهبان ممن يقبل تشريعهم من دون الله وإن لم يسم فعله عبادة فقد عبدهم، ولا ينفعه ذلك بعد بلوغ الحجة، ووصولها إليه؛ لأن هذه عبادة له من دون الله.

وقوله: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:٤٤].

انظر إلى هذا التعليل، وتأمل وتدبر كيف أنه جعل طاعة الشيطان لا تجوز، ولا تنبغي؛ لأنه عاص للرحمن.