[فضل الإيثار واجتناب الشح]
قال الله تعالى: ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا))، أي: لا يجدون في صدورهم حسداً مما أوتي المهاجرون، أولاً: من الأموال، وثانياً: من الفضل والتقريب في الذكر؛ فإنه سبحانه ذكر المهاجرين أولاً، فلما جاءت أموال بني النضير أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين، يعوضهم بها عما أصابهم في أموالهم، وعما ضحوا به في سبيل الله عز وجل، فما حسدهم الأنصار، وما وجدوا في قلوبهم غلاً لهم لأنهم أوثروا بهذا المال أولاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها فاصبروا حتى تروني على الحوض) فهم لم يحسدوا المهاجرين على الفضل الذي فضلهم الله به، كذكر الله ذكر المهاجرين دائماً أولاً فقال هنا: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) ثم قال: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:١٠٠]، وقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:١١٧].
والمهاجرون أفضل من الأنصار في الجملة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومع ذلك سلمت صدورهم، فلم يكن فيها حسد ولا حقد.
رجل من الأنصار رضي الله تعالى عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، فطلع رجل من الأنصار تقطر لحيته ماء، قد علق نعليه في يده، ودخل فسلم، وفي اليوم التالي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع نفس الرجل على نفس الصفة، وفي اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ذلك، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو أحد العباد من الصحابة، الذي كان يختم القرآن كل ليلة، إلى أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اختم القرآن في كل سبع)، وظل كل سبع ليالي يختم القرآن في قيام الليل، ويصوم يوماً ويفطر يوماً.
ذهب عبد الله إلى هذا الرجل وقال: إنه قد كان بيني وبين أبي شيئاً، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن أبيت عندك فافعل.
فقال: نعم، وعرض في الكلام، وهو يعني: أنه ما من أحد إلا ويكون بينه وبين أبيه شيء، وهو أقسم الآن أن لا يدخل؛ لأجل أن يؤويه الأنصاري، فآواه الأنصاري، فلم يرَ منه كثير صوم ولا صلاة، غير أنه كان إذا تعار من الليل وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل حتى يقوم، فلما مضت الثلاث قال عبد الله بن عمرو: كدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله إنه لم يكن بيني وبين أبي شيء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلعت أنت في الثلاث المرات، فأردت أن أرى عملك فأقتدي بك، فقال: يا ابن أخي! ما هو إلا ما رأيت، ثم لما انصرف عبد الله رده فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني أبيت وليس في صدري حقد ولا غش ولا حسد لمسلم، فقال: هي التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق.
وذلك أن أكثر الناس لا يطيقون أن لا يكون في قلوبهم حسد ولا غش للمسلمين، فهؤلاء الأنصار رضي الله عنهم ليس في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون كالحسد عليهم، فليس عندهم ذلك مما أوتي المهاجرون في الدنيا أو في الآخرة.
قال الله: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، الصحابي الجليل وامرأته رضي الله عنهما آثرا على أنفسهما، قوله: ((وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، أي: ولو كان بهم حاجة، وهذه أعلى قدراً من التي قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:٨] فقد يكون الإنسان محباً للطعام، ولكنه ليس مضطراً إليه، فإذا أطعم منه كان مؤمناً، يعني: لو أن رجلاً عنده أكل يحبه في البيت، وهو شبعان، فإذا أنفق منه كان مؤمناً، وهذان باتا طاويين رضي الله تعالى عنهما، وبات صبيانهما جياعاً؛ لكي يطعموا الفقير المسكين ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أطلعه الله على فعلهما: (لقد عجب ربكما من صنيعكما بضيفكما الليلة) يعني: أتاه الوحي بما صنعا، مع أنهما كانا في بيت مظلم، ولم يتركا السراج موقداً؛ حتى لا يرى الضيف قلة الطعام، ويراهما لا يأكلان فقد يترك الطعام وهو يتوق إليه، فأطفأا السراج؛ لكي يأكل براحته رضي الله تعالى عنهم.
وفي بعض الروايات أنها أم سليم وزوجها أبو طلحة رضي الله تعالى عنهما، وهي جديرة بأن تكون كذلك، فلها منزلتها العظيمة.
قال تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)): وقد وقاهم الله شح أنفسهم.
والشح: هو التطلع إلى ما في أيدي الناس، ومن وقي شح نفسه فلم يسرق، ولم يزنِ، وليس فقط في المال، فالبخل مذموم، والشح أشد، فالشح أن تتطلع إلى ما في أيدي الناس، والبخل: أن تمنع ما في يدك وما يلزمك، ومنه ما هو محرم: وهو منع الواجب، ومنه ما هو مكروه: وهو منع المستحب.
فالشح ليس فقط أن تأخذ ما بيدك وتمنعه ولكن تريد أن تمنع ما في أيدي الناس، ولهذا كان الزنا من عدم وقاية الشح؛ لأن عنده شيء حلال، فلماذا تطلع إلى الحرام؟ أو ليس عنده زوجة أو أمة؟ لكن حرم الله عليه ذلك الفرج، فإذا به يتطلع إلى ما يحل لغيره ولا يحل له، فهذا لم يوق شح نفسه.
والذي ينظر إلى العورة المكشوفة ويتلذذ بها لم يوق شح نفسه، ألا يكفيه أن ينظر إلى ما أحل الله؟ وكونه ينظر إلى ما حرم الله فهذا لم يوق شح نفسه؛ لأنه تطلع إلى ما في أيدي الناس، وإلى ما حرمه الله عليه، وجعله لغيره، نسأل الله العافية، وكان عبد الرحمن رضي الله عنه يطوف البيت، لا يزيد على أن يقول في دعائه: اللهم قني شح نفسي.
وسأله بعض التابعين عن ذلك فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن.
فالسارق لم يوق شح نفسه، والغاصب لم يوق شح نفسه، والذي يخاصم بالباطل لم يوق شح نفسه، ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).