قال تعالى:((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) وهذه زيادة، وذلك أنه إذا كظم الإنسان غيظه، فربما كظمه في وقتٍ وأجل الانتقام لوقت آخر، فأتى بـ ((وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) فهو لا يكظمه الآن لينتقم غداً، وإنما يعفو، وليس فقط يعفو، بل ويحسن إلى من أساء إليه، فهو يعفو ويصفح ويزيد، وهذا كله من الإحسان الذي جعل الله جزاءه الإحسان، وكل هذا منبعه من كمال العبودية لله عز وجل.
إن الأخلاق الإنسانية مرآة عقيدة القلب، والأخلاق السوية التي أمر الله عز وجل أن نتعامل بها فيما بيننا مرآة تكميل عبوديتنا لله حتى كأننا نراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا هو الإحسان الذي يملأ القلب غنىً بالله عز وجل، ومع ذلك فإن القلب مفتقر فقراً شديداً إلى عبودية الله عز وجل، وإلى الحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والشكر، والصبر، وسائر أنواع العبودية، فإذا عبد الله كأنه يراه اكتملت في القلب أو زادت واقتربت من الكمال أنواع العبودية، فحصل غنىً لهذا القلب؛ لأن طاقة القلب هي العبودية التي لا يسدها أي شيء آخر، إلا أن يكمل عبوديته لله، فكلما ازداد عبودية لله عز وجل واستحضاراً لعظمة الله عز وجل في قلبه ازداد قلبه غنىً، وعند ذلك سهل عليه أن يتعامل بهذا الإحسان، بأن يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويحسن إلى من أساء إليه.
فهذه هي الأخلاق العظيمة التي لا بد أن يتخلق بها المؤمن عموماً، والداعي إلى الله عز وجل خصوصاً، قال تعالى:((وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) وهذا من أعظم الترغيب في الإحسان إلى خلق الله، وهو ثمرة الإحسان في عبادة الله عز وجل؛ لأن الغني يسهل عليه أن يسامح في حقه، بل ويبذل ويجود، ويعطي إلى من أساء إليه؛ لأنه غني.
وهذا مثل رجل مليونير حصلت بينه وبين الناس مشاجرة على ربع جنيه، فالناس يريدون أخذه منه وهو ملكه، فماذا يعمل؟ يتركه لهم، لأنه عيب أن يتضارب مع الناس من أجل ربع جنيه.
وهكذا هو حقك الدنيوي، فلو كنت غنياً بالله عز وجل لسهل عليك أن تتنازل عنه، ولا تقل: فلان قصر في حقي، بل أنت لا ترى لنفسك حقاً على الناس أصلاً، لأنهم لو أحسنوا إليك فذلك كرم منهم، وفي الحقيقة إنما يحصل ذلك لمن انشغل بما هو أعلى من ذلك، وإنما يذهل عن التفكير في الحجر والخشبة من انشغل بنظره وقلبه بملك الجوهرة، أما من امتلأ قلبه بحب الله عز وجل هان عليه كل ما يقصر في حقه، بل هو لا يرى لنفسه حقاً، ولا يخاطب إلا في حق الله عز وجل.
وهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله، وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فأعظم ترغيب في خصلة الإسلام هو قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) فالمؤمن يبحث عما يحبه الله عز وجل، وهذا هو الذي يجعل قلبه يرتجف توقاً إلى الله سبحانه وتعالى، وتوقاً إلى حبه، وهذا هو الذي يدفع المؤمن أعظم من طلبه الجنة، فهو يطلب أن يحبه الله سبحانه وتعالى أعظم من أي شيء، قال تعالى:((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)).