ثم الجهاد في سبيل الله، وأصله بذل الجهد في مرضاة الله سبحانه وتعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل) وقمة ذلك بلا شك بذل الجهد في جهاد الكفار، وهذا القتال هو ذروة سنام الإسلام؛ لأنه تتمة لذلك الجهاد الباطن، وذلك الجهاد الباطن هو أصله، وهذا كجبل الثلج يبدو منه قمته وتحت السطح تسعة أعشاره، وحقيقة الأمر أن الخاسر من لم يجاهد نفسه في الله عز وجل حتى يعلمها الحق، وحتى تعمل به، وحتى تأمر به وتدعو إليه وتصبر على مخالفة الناس على ما أصابها في مخالفتهم، ويجاهدها بدفع الشبهات والشهوات التي يبثها الشيطان في النفوس، ويجاهدها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب واللسان واليد، ويجاهدها لتبذل في سبيل الله ما استطاع أن يجاهد، ولا شك أنها منة من الله عز وجل أن يقيم الرب سبحانه وتعالى عبده ليبذل نفسه وماله في سبيل الله، إن هذه منة من الله ينبغي أن يظل من حرم منها باكياً على نفسه والله، ينبغي أن يظل باكياً وهو يرى في الأرض في زمنه من يبذل لله عز وجل نفسه وماله ووطنه وأرضه وأهله، يبذل كل ذلك لله عز وجل، ينبغي أن يبكي على نفسه كما بكى البكاءون، قال تعالى:{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}[التوبة:٩٢]، مع أنهم غير مقصرين ولكنهم يخافون أن يكون قد فاتهم الخير، والله عز وجل علم منهم عذرهم الذي أقعدهم عن شهود هذه المواطن، وقد نزلت الآيات فيهم تشهد لهم بالإيمان والصدق والإخلاص لله عز وجل، ومع ذلك كانوا يبكون، ونحن ما شأننا؟! أنحن فعلاً نحب الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل بأنواعهما المختلفة، ونحب أن نكتب مع المجاهدين في سبيله سبحانه وتعالى وإن كنا لسنا معهم في أرض المعركة أم أن الله عز وجل قد علم منا ما يكرهه فثبط الهمم والعياذ بالله من ذلك؟! عز وجل ثبط همم أقوام وكره انبعاثهم فأمرهم بالقعود كما قال عز وجل:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة:٤٦]، نعوذ بالله أن نكون من هذا الصنف! فأيهما أولى أن يبكي على نفسه: الذي نزل القرآن ببيان إيمانه وصدقه ونصيحته لله وللرسول صلى الله عليه وسلم أم من لا يدري ما شأنه؟ فإذا كان الإنسان قد أقامه الله سبحانه وتعالى على ثغرة من ثغرات الدين، فكيف يفرط فيها؟ وكيف يتنازل عنها؟ وكيف ينسحب منها وقد من الله عز وجل عليه بذلك، وهو في الحقيقة إنما ينتظر مناً آخر وفضلاً آخر ليحصل له عظيم الرجاء؟! الله عز وجل جعل الرجاء لمن أتى بهذه الثلاث قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ}[البقرة:٢١٨]، وإلا كان الرجاء أماني، وفرق بين الرجاء وبين أماني الغرور كما قال سبحانه وتعالى:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد:١٣ - ١٤]، نعوذ بالله من ذلك! غرتهم أماني مغفرة ظنوها قطعية؛ لأنهم أهل دنيا كما قال قائل من هذه النوعية:{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا}[الكهف:٣٦]، كما يقول القائل إذا أكرمه الله بشيء من الدنيا ونعمه:{رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر:١٥]، يرى الكرامة إنما هي في العطاء الدنيوي، ويجزم لنفسه بالآخرة والمغفرة عند الله سبحانه وتعالى من شدة الغرور والجهل، وكم من أناس خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، وكذبوا! لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، وما أروع هذه الكلمة وهي من الحسن البصري رحمه الله! نعم، كثير من الناس يغتر بأمان باطلة، لكن الذي يرجو يجد فعلاً نور الرجاء وشموس الرجاء في قلبه، هذا الذي حقق الإيمان بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وشهد سنته الماضية في خلقه في أنبيائه ورسله، وفي أعدائه، وعلم عواقب الأمور ونهايتها، ولم يقف عند بداياتها، فهاجر وتحمل مفارقة الناس والآراء ومفارقة الجهالات والأخلاق الفاسدة والضلالات والمنكرات، وتحمل كل ذلك في سبيل الله عز وجل، ثم بذل جهده لإعلاء كلمة الدين ونصرة الإسلام، وسعى لكي يبذل ويضحي في سبيل الله عز وجل، وهو مستعد أن يضحي بكل شيء في سبيل الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي يرجو رحمة الله سبحانه وتعالى.
إن النظر فيما ذكر الله سبحانه وتعالى من قصص أنبيائه ورسله من أعظم ما يوقد أنوار الرجاء في قلب العبد المؤمن؛ لأنه يرى كيف كانت سنة الله، وكيف كان فضل الأنبياء، وكيف كان يقينهم مع من معهم من المؤمنين، وكيف كان رجاؤهم في فضل الله! رغم أن كل المعطيات الظاهرة كانت تدعو إلى اليأس كما هذا كثير من المسلمين اليوم، فالكثيرون يشعرون باليأس والحزن العميق؛ لأجل ما أصاب المسلمين وما زال يصيبهم من أنواع البلايا والمحن على أيدي شر خلق الله، على أعدى أعداء الدين من اليهود والنصارى والمشركين والعياذ بالله! ممن يبذل جهده كله في إهانة المسلمين وأذيتهم، ولكن كل هذا في حقيقة الأمر لمن حقق الإيمان مبشرات النصر، وهذه كلها مما يسبب له مزيد الرجاء في قرب الفرج والنصر والتمكين بإذن الله تبارك وتعالى، وإنما هي فترة تمحيص وهداية من هدى الله، وفترة تراكم الظلم والباطل بعضه على بعض، فأنت ترى في كل يوم تميزاً حتى من كان عنده مسألة واحدة من الدين، ربما تجد إنساناً عنده مئات المسائل والمواقف من الباطل، وعنده مسألة واحدة من الدين، فيريد أهل الباطل أن يفارقوه، ويقولون له: إما أن تفارق هذه المسألة وتكون معنا وإما فأنت عدونا وضدنا! والله إن الإنسان ليعجب! أنواع الباطل كثيرة جداً، وكثير جداً من الناس يوافق على الباطل، لكن المحنة تكون حتى على مسألة واحدة يكون الإنسان عليها فضلاً عمن كان عنده أكثر من ذلك، كمن عنده مسائل بفضل الله سبحانه وتعالى وقف فيها في صف الحق؛ فعودي، ومن يقف في صف الحق كاملاً، يقوله كله ويلتزم به كله، فلا شك أنه سوف يعادى أتم معاداة، أما ترى ما كان من معارك هائلة من أجل فتوى مثلاً بمنع مصافحة الأجنبية وتحريم ذلك! وما ترى من معارك من أجل الدعوة مثلاً إلى تحريم السجائر أو تحريم التبرج أو نحو ذلك! ترى عجباً! مجرد فتوى تحارب مع مئات الفتاوى الموافقة للباطل، لكن الحق لا يرضي أكثر الناس، فيسعى هؤلاء في المفاصلة، فأهل الباطل هم الذين يفاصلون، أما ترى غطرسة اليهود وكفرهم وعنادهم؟! لو قدم لهم أعظم التنازلات وأكبر التراجعات لا يقبلون ذلك، كما وصفهم الله:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة:١٢٠]، فالقضية واضحة جداً، والغرض المقصود: أن شهود سنة الله سبحانه وتعالى في أنبيائه ورسله يفتح للقلب أنوار الرجاء، وينير القلوب ويمنعها من حصول اليأس الذي هو من الكفر.