[الأرض مكان الصراع بين الحق والباطل]
((فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)) فمن أين يأتي الغرور لمن عرف أسماء الله وصفاته، وعرف أنه هو الذي قدر المقادير، وآمن بالقدر خيره وشره، وفوض الأمر إلى الله؟ إنما يغر الإنسان إذا ضعف إيمانه أو زال، وإنما يغر الإنسان إذا وزن الأمور بموازين أهل الدنيا، وبقوة أهل الأرض، ولكن المؤمن ترتفع نفسه إلى آفاق أعلى زماناً ومكاناً.
وانظر إلى هذه الآيات التي توسع أفق المؤمن، وتجعله يرى الدنيا من أولها إلى آخرها كحلقة واحدة تتضمن أنواعاً أو حلقات من الصراع بين الحق والباطل {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:٥].
وتأمل ما يجعلك ترى الدنيا من أولها إلى آخرها زماناً صغيراً جداً تتكرر فيه هذه الصراعات التي حقيقتها صراع بين الإيمان والكفر، ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: قبل قريش، وقبل كل أمة سارت على طريقها وعلى نهجها، وقبل كل قوم كفار، فكان قوم نوح على تكذيبهم لرسلهم، والأحزاب من بعدهم، وهذه سنة قدرها الله عز وجل أن تكون، وأن تتحزب الأمم وقوى الباطل، وتجتمع على رسلهم أصحاب دعوة الحق، ((وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ))، ومن الأحزاب فرعون وثمود والجنود التي جندوها {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:١٧ - ٢٢].
فتحزبت الأحزاب، واجتمعت القوى؛ لكي تزهق الحق، فثبت الحق وزهق الباطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:٨١]، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:٥]، فيزداد الكيد والمكر عبر مرور الأيام والشهور والسنين للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويصل الأمر إلى أن قرر الكفار بأن يجتثوا الدعوة من أصلها، ويأخذوا رسولهم ويمنعوه بالكلية: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠].
وحين ترى أن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك مثالاً للمؤمنين لكي يتعظوا، فاعلم أن هذا الأمر يتكرر، وأن الكفار يريدون أن يجتثوا دعوة الرسل، فالذين قتلوا الأنبياء بالأمس هم الذين يريدون قتل دعوتهم في كل زمان ومكان، وهم لهم نصيب من ذلك، ولذلك ذم الله بني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:٨٧]، فجعلهم من قتلة الأنبياء مع أنهم لم يتمكنوا من قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أرادوا قتل دعوته، وهموا بقتله، وأرادوا قتل أولياء الله سبحانه وتعالى، وحزبوا الأحزاب من أجل إبادة الدعوة وإيقافها، جعلهم الله كالذين من قبلهم، وهي مسألة تتكرر في الأزمنة والأمكنة المختلفة، فطالما عادوا أولياء الله لأجل ولياتهم لله، وعادوا الدعاة إلى الله لأنهم يدعون إلى الله سبحانه، وعادوا أهل الإسلام لأنهم أسلموا، وتجد أن هذا الأمر يتكرر في المشارق والمغارب، فتجد من يحارب من التزم بالدين؛ لأجل التزامه بالدين، فهذا يحارب الله ويحارب رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا منهم، وكلهم يريدون أن يأخذوا دعوة الرسل ليوقفوها، فإن فعلوا ذلك فإن الله عز وجل سيأخذهم، قال سبحانه: ((وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ))، ولهم وسائل متعددة، فقد هموا بأن يأخذوا الرسل، وكذالك جادلوا بالباطل، فاستعملوا جميع الوسائل المتاحة لهم من القوة المادية والمعنوية ليصدوا الناس عن سبيل الله، ومحاولة إقناع الناس بأن ما جاءت به الرسل ليس هو الحجة، فإن استجابوا لهم وإلا أخذوا الرسل وبطشوا بمن تبعهم.
((لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)) فما كان الجزاء؟ (فأخذتهم) أي: أخذهم الله وأبطل كلا النوعين من المكر، وأبطل ما أرادوا من أخذ الرسل، بل أخذهم هو عز وجل؛ لأن الله من ورائهم محيط، والقوة له جميعاً سبحانه وتعالى، ولا حول ولا قوة إلا به عز وجل، ولا يملك العباد شيئاً: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٦].
فأما ما يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كي تستيقظ القلوب من وزن الأمور بميزان أهل الدنيا، ولكي تدرك حقائق هذا الوجود، وتدرك أين القوة ولمن تكون، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم! أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اللهم! اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر).
فما أعظم أدعية النبي صلى الله عليه وسلم! فهي أدعية تجعل الإنسان يتجاوز زمانه ومكانه، ويستحضر أن أوامر الله نازلة، وأن أعمال العباد إليه صاعدة، وأن الدنيا كلها في قبضته عز وجل، وأن صغير الأمور وكبيرها هو سبحانه وتعالى مالكها ومدبر أمرها: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:٥]، فعندما يدرك المؤمن ذلك، ويتحرر من قيود الزمان والمكان يعظم إيمانه، فترجح كفته، وينتصر بإذن الله وتنتصر طائفته.
وإنما ترجح كفة ميزان أهل الإيمان بمقدار الإيمان في قلوبهم، فتتغير الموازين من أجلهم، وينمحي الباطل بدعائهم، وإنما يكون ذلك باستحضارهم عظمة ربهم، فهؤلاء الكفار أخذهم الله قبل أن يأخذوا رسولهم، وقبل أن يوقفوا الدعوة، وفي كل مرة يظن الظان أن أمر الدعوة وصل إلى طريق مسدود، وأوشك على الانتهاء.
وانظر إلى إبراهيم عليه السلام وقد ألقي في النار والظن بلا شك لكل من يزن بموازين الأرض أن دعوته قد توقفت وانتهت وماتت، وإذا بالأمور تنقلب، وإذا بذكر إبراهيم يظل إلى الآخرين: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:٨٤]، ويظل إبراهيم إماماً للمتقين، رغم أنه ما آمن به من قومه إلا لوط، وهكذا جعل الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام عندما أقسم أتباعه أنهم لمدركون: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢]، فهكذا أخذ الله الكفرة.
{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:٥ - ٦] فكما فعل الله بمن مضى من المكذبين سيفعل بمن يأتي منهم، ففي كل زمن، وفي كل أرض، وفي كل صراع يوجد من هذه النوعية، وإنما يريد الله أن يقع عقابه على الكافرين بالحق، ولم يعذبهم باطلاً، ولم يدخلهم النار ظلماً، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:٦]، أترون البغي والعدوان والظلم والطغيان الذي يرتكبه أعداء الله وعلى رأسهم اليهود الغادرون المكذبون الطغاة المجرمون، الذين ينشرون الفساد في مشارق الأرض ومغاربها، أتظنون أن ذلك يغيب عن الله، أو أنه خارج عن سلطانه؟ لا والله! ولكنه سبحانه يملي لهم؛ لأن كيده متين، ولأنه سبحانه يريد أن يدخلهم النار.
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:٦]، فلقد كان دخولهم النار حقاً وعدلاً بما اقتضته أعمالهم وبما كسبته أيديهم، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:١١٧]، وهم بطغيانهم هذا يقتربون من النهاية، وذلك حكم الله عز وجل وإرادته في جبر المنكسرين، وكسر المتجبرين وإذلالهم وإصغارهم، كما قال سبحانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:٥ - ٦]، فإرادته ماضية في ذلك، كما حكى الله عن قوم موسى قولهم لموسى: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:١٢٩]، {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:٦].