قال الله تعالى:((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)) ما قال هذه الكلمة إلا عندما أدركه الغرق وعاينه، وكان قبل ذلك لا يوقن بالهلاك فما نطق بها، لكن عندما عاين الغرق منفرداً، وأيقن أنه لا يستطيع أحد من الحاشية والجنود، ونصره فلا هامان ولا الوزراء ولا الأعوان يستطيعون إنقاذ أنفسهم أو غيرهم.
هذه اللحظات تحصل لكل كافر وظالم وباغ، وهي: لحظة الموت، لحظة مفارقة الحياة، فماذا يغني الأعوان والجنود؟ أو المال والسلطان؟ أو الملك والعز الذي كان ظاهراً؟ ماذا يستطيع الناس في تلك أن يفعلوا اللحظات لمن يحتضر أو لمن يصيبه أمر الله عز وجل؟ ما أحوجنا إلى أن نتذكر هذه اللحظات التي سيمر كل واحد منا بها، لحظة مفارقة الدنيا فرداً، كما قال عز وجل:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:٨٨ - ٩٥].
كما أنك ترحل عن الدنيا فرداً فستأتي الله يوم القيامة فرداً، قال عز وجل:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:٩٤].
تقطعت الأسباب، والروابط، والصلات، وهلك فرعون، وأدركه الغرق، وحينها قال:((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)) ذل وهوان، حتى أنه يريد أن يتابع بني إسرائيل فلم يقل: لا إله إلا الله، وإنما كان يقول:((لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)) فكأنه يريد أن يقول: أنا تابع لبني إسرائيل، أنا أريد أن أكون في ذيلهم، ذل وهوان عجيب، هذه اللحظة لحظة يسيرة لكنها على فرعون طويلة، أضاعت كل مجده وسلطانه وكل عزه وهيلمانه، أضاعت كل ما كان له، وبقيت عليه لحظات أطول، وعذاب أشد.
يقول جبريل عليه السلام كما في الحديث الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم:(لو رأيتني وأنا أدس من وحل البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة) أي: بسبب هذه الكلمة: كلمة لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين، وجبريل عليه السلام يبغض فرعون بغضاً عظيماً، ولكنه يعلم فضل الكلمة التي قالها فرعون، ويخشى من كثرة قول فرعون لها أن تدركه رحمة الله، وهو يريد أن يهلك فرعون على الكفر؛ لينال عقابه، فجعل يأخذ من طين البحر ويجعله في فم فرعون ليسكت.
كلمة لا إله إلا الله كلمة عظيمة، لابد أن نقدر لها قدرها، كما كان جبريل يقدر لها قدرها من فرعون، ويخشى أن تكون سبباً لرحمة الله، والله عز وجل عليم حكيم، وهو سبحانه وتعالى لا يقبل التوبة من الناس عند رؤيتهم العذاب، كما قال تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}[غافر:٨٥].
ثم قال له الله عز وجل:{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس:٩١] أي: آلآن تؤمن، ولا يقبل الإيمان، ولا ينفع نزول العذاب، نسأل الله العافية، ونعوذ به من سخطه وعقابه، ونسأله نصره وتأييده، أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.