للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراتب طاعة الكفار والمنافقين وشروط الإكراه]

وحذر الله المؤمن من طاعة ومتابعة الكفرة والمنافقين والظلمة الآثمين؛ لأن طاعتهم تقود إلى الخسران فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:١٤٩].

وطاعة هؤلاء وكذا متابعتهم على مراتب وأنواع، فإن طاعتهم في الكفر كفر طالما لم يكن هناك إكراه، وأما المكره فهو مطيع بظاهره كاره عاص للذي أكرهه بباطنه، والله عز وجل قد وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما قال عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦]، وأما من يطيع اختياراً في الكفر لأجل دنيا يصيبها أو لأجل مال أو رياسة أو جاه دون إكراه معتبر شرعاً فلا عبرة بإرادته الأولى، وأعني بالإرادة الأولى: ما كان يختاره لو لم يعرض عليه ذلك، فكثير من الناس يعرض عليه الكفر والفسوق والعصيان بثمن بخس من الدنيا فيقول: أنا لا أريد أن أفعل ذلك، ولكن ماذا أصنع والدنيا تحتاج إلى هذه الأمور؟! وماذا أصنع وأنا لا أستطيع أن أكتسب جاهاً أو منزلة أو مالاً أو وظيفة إلا بالكفر والفسوق والعصيان؟ فيكفر دون أن يوجد الإكراه المعتبر شرعاً، والذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه بقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦].

وباستقراء أدلة الشرع استنبط العلماء شروطه: وهو أن يكون الإنسان المكره عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وأن يكون المكرِه قادراً على إيقاع ما يهدد به، فأما إذا كان المكرِه عاجزاً وكان المكرَه قادراً على الرد وعلى أن يمنع نفسه من ذلك فليس بإكراه؛ فإنه منافٍ لأصل الكلمة، وكذا إذا كان قادراً على التخلص من إكراه المكره بالفرار في الأرض، وأرض الله واسعة، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:٩٧].

وهذه الآية نزلت فيمن خرج كارهاً لا مكرهاً من شبان قريش مع قريش لقتال المسلمين في غزوة بدر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل بعضهم لما يعلم من أنهم لا يريدون حربه ابتداءً، ولكن إرضاء العشيرة دفعهم إلى الخروج، وكان منهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قتل بعضهم؛ لأن الأنصار كانوا لا يعرفونهم، وإنما يعرفهم المهاجرون، ولقد كان يرمى أحدهم بالسهم فيُقتل أو يضرب ضربة بالسيف فيُقتل، فقال بعض الصحابة: استغفروا لإخوانكم، فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ))، وقد بوب عليه البخاري في صحيحه، باب: من كره أن يكثر سواد أهل الظلم والفتن، فجعلها عامة في كل من زعم الاستضعاف وشارك في ظلم وفتنة وفساد في الأرض، حتى ولو وقع ذلك من ناس مسلمين ظالمين، ولذا نهى أبو الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى بعض التابعين عن الاشتراك في الجيوش التي تغزو عبد الله بن الزبير في الفتنة التي وقعت، واستدل بما قص ابن عباس من تفسير هذه الآية كما رواه البخاري.

والمقصود: أن المكره إذا كان قادراً على التخلص ولو بالفرار لم يكن مكرهاً، وكذا إذا كان هناك فسحة من الزمن، فلا يكون الإنسان مكرهاً إلا إذا كان الإكراه فورياً وغلب على ظنه أنه يوقع به ذلك، فأما إذا لم يكن فورياً أو لم يغلب على ظنه ذلك لم يكن مكرهاً.

والشرط الرابع في ذلك: ما ذكره الله في كتابه في قوله: ((وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)).

فأما من فعل وطاوع في كفر أو في معصية من غير إكراه فحكمه حكم من فعل، ويلزمه ذلك الحكم، فإن كان كفراً كان كافراً والعياذ بالله! فمن أطاع غيره في الكفر حتى ولو كان لا يريد ذلك ابتداءً وإنما يفعله إرضاءً لغيره أو يفعله كسباً لدنيا فإنه لا يعد مكرهاً بل يكون كافراً.

وأما إذا أطاعه في معصية وليس في كفر فهذا يختلف باختلاف الحال، فإذا كان معتقداً أن أمر الله هو الواجب وأن معصيته محرمة ولكنه أطاعه لنيل شهوة ولم يكن الفعل كفراً كان عاصياً ولم يكن كافراً، وإن كان له نصيب من العبودية لغير الله وقع في الشرك الأصغر؛ لأنه أطاع غيره في معصية الله، وشابه الكفار الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، لكنه إذ لم يبع أصل الدين، وإنما باع جزءاً منه لنيل شهوة، أي: ترك طاعة لله عز وجل لنيل شهوة فهذا له نصيب من العبودية، فلا يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه بقي معه أصل الدين فلم يبعه، فلو قيل له مثلاً: اكفر بالله حتى نعطيك من المال كذا أو نعطيك الوظيفة الفلانية أو الرئاسة الفلانية أو نحو ذلك فأبى أن يطيع، فأمروه بالمعصية فقط كأن يظلم مسلماً مثلاً، أو أمروه أن يأكل رباً، أو أمروه أن يفعل فاحشة ففعل لكنه أبى أن يكفر بالله وهو معتقد أنه آثم ومعتقد أنه عاصٍ، ومعتقد أن طاعة الله هي الواجبة وأن معصية الله محرمة؛ فهذا لا يخرج من الملة، ولكنه عبد لذلك الشيء، من الدرهم أو الدينار أو القطيفة أو الخميصة التي ترك من أجلها طاعة الله، وهذه عبودية شرك أصغر لا تخرج صاحبها من الملة وإن كانت عظيمة من العظائم.

وأما إذا أطاع غيره في معصية الله وهو يرى أن له عليه الطاعة ولو خالف أمر الله عز وجل، أو يرى أن له الطاعة المطلقة، أو يرى أن لهذا الغير أن يبدل ويغير شرع الله ويعتقد ما قاله لازماً دون لزوم شرع الله سبحانه وتعالى؛ فهذا كافر، وهذا تجده كثيراً فيمن تعود على التبعية وتعود على الطاعة العمياء؛ فإنه يرى أنه لو أمر بمعصية الله فيلزمه أن يطيع، وأنه لا دخل له بذلك، فإنما عليه الطاعة، حيث تربى على ذلك ونشأ عليها، فلو أمروه بأي أمر لفعل، نعوذ بالله من ذلك! فهذا الذي اعتقد لزوم طاعة غير الله في معصية الله واستحل مخالفة شرع الله عز وجل في هذه المعصية قد استحل المعصية، وهذا -والعياذ بالله- أيضاً يكون كافراً.

أما إذا رأى طاعته الطاعة المطلقة التامة في أي أمر ابتداءً، فيرى أنه لو أمره بالكفر لكفر دون أن يأمره ذلك الآمر بالكفر فإنه يكون كافراً، وهذا في الطاعة المطلقة التامة؛ لأنها تتضمن الأمر بالكفر -والعياذ بالله- ويدخل فيها ذلك فيكون كفراً.

إذاً: فطاعة الذين كفروا بمخالفة شرع الله عز وجل على أقسام: منها ما يكون طاعة مطلقة، ومنها ما يكون طاعة تفصيلية.

فالطاعة المطلقة: تقتضي طاعتهم ومتابعتهم في أبعاض وأجزاء ما هم عليه، وذلك متضمن للكفر، ومن يرى أن عليه أن يطيع ولو أمر بالكفر فهو -والعياذ بالله- عبد لمن أطاعه، ولا ننتظر فيمن قال ذلك أو اعتقده أن يأتي بأمر كفري لننظر في شأنه، بل من صرح بشيء فإننا نحكم عليه به؛ لأننا لا نعرف ما في باطنه إلا بأن يقول ويصرح، ولكن نقول فيما هو الحكم عند الله عز وجل: إذا اعتقد أنه يطيع الكفار طاعة مطلقة ولو أمروه بالكفر لكفر فإن هذا كافر، وهناك طائفة من الناس تربت على ذلك تربية من صغرها ومن أول نشأتها، فربي أحدهم على أن يطيع ولو أمر بالكفر، ولو أمر بالسجود لغير الله، ولو أمر بقتل الأنبياء، ومنهم من يوطن نفسه على ذلك، وبعضهم قد يتكلم بذلك ويصرح به ويقول: لو أمرونا أن نحارب الأنبياء لحاربناهم!! ولو وقف في وجههم النبي لكان واجباً علينا أن نطيعهم دون أن نطيع النبي!! وهم يصرحون بذلك، واليهود لا يأمرون بذلك فضلاً عمن دونهم، لكن هذا الذي اعتقد ذلك وتربى عليه قد خرج من الملة؛ لأنه صار عبداً عند الذي أطاعه وعزم على طاعته هذه الطاعة المطلقة، حتى ولو لم يأمره في حياته أمراً ما؛ فإن من الناس من يكون بعيداً عمن لهم الأمر، ولكنه يعتقد في نفسه أنهم لو أمروه بالكفر لكفر، ولو أمروه بالمعصية لعصى، وأنه يطيعهم الطاعة المطلقة؛ فهذا كافر.

وأما الطاعة التفصيلية في أجزاء معينة فهذا الذي ذكرنا فيه التقسيم: فما كان من طاعة في الكفر فهو كفر إذا كان بغير إكراه، وأما إذا كان مكرهاً فهو معذور، وكذا سائر الموانع، فإذا كان بغير قصد أو بغير علم فإنه يبين له الأمر أولاً، فبالنسبة لشخص بعينه فلا بد أن تستوفى الشروط وتنتفى الموانع، فطاعتهم في الكفر كفر، وطاعتهم في المعصية مع اعتقاد أنها معصية معصية، وأما مع اعتقاد لزوم طاعتهم دون طاعة الله وطاعة الرسول، أو اعتقاد ما قالوه دون ما قال الله وقال الرسول فهذا من الشرك، وهو الذي ذكره الله عز وجل عن اليهود والنصارى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:٣١]، قال عدي بن حاتم: إنا لسنا نعبدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم يحرموا الحلال ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم).

أي: فاتبعتموهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وهذه قضية مهمة، ولابد من الانتباه لما في هذا الحديث؛ لأن كثيراً من الناس قد لا يحسن فهمه ويظن أن أي طاعة في معصية الله تكون عبادة شركية مخرجة من الملة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألم يحللوا الحرام ويحرموا الحلال فاتبعتموهم؟)، أي: اتبعوهم على التبديل، وعلى التحليل والتحريم، وعلى التشريع، وليس أنه أطاعهم طاعة مع اعتقاد حل ما أحل الله وتحريم ما حرمه.

فمثلاً: هناك من يقول: إن الزنا أمر لا بأس به، وإنه حرية شخصية.

وهناك من يرد عليه ويقول: بل الزنا حرام حرمه الله عز وجل، ولكنه يزني، وإذا قال له: تعال نزني بعد أن قال له: الزنا حرام، فسيذهب ويزني ويفعل ما حرم الله عز وجل، فهذا ليس بكافر؛ لأنه رد عليه تحليله وتحريمه ولم يتابعه على التحليل والتحريم، وإنما تابعه في الفعل المحرم.

ومن الناس من يكون بعيداً عن هذا، ولا يكلف ذلك، ومع