[الإيمان بالله ومعرفة أسمائه وصفاته]
إن تحصيل الرجاء -الذي هو من أجلِّ أنواع العبودية- يكون بثلاثة أمور ذكرها الله عز وجل: الإيمان، ومعرفة أسماء الله وصفاته، ومعرفة سنته سبحانه فيما يفعله بأوليائه وأعدائه، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:٢١٨]، فمن يرجو رحمة الله أولاً؟ المؤمنون، وهذا يظهر جلياً كما سنذكر في مواقف أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقد كانوا في غاية الرجاء في لحظات الشدة، وذلك مبني على علمهم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته، وباستحضارهم هذه الأسماء والصفات ومعانيها وآثارها في الوجود، فهم يرون مالا يرى الناس من آثار أسماء الله وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى في خلقه، يشهدون ما أشهدهم الله بالوحي المنزل، وما قذف في قلوبهم من أنواع العلم به سبحانه وتعالى، فيشهدون بذلك مالا يشهده الناس.
انظر مثلاً إلى ما أمرنا الله أن نشهده، أشهدنا سبحانه وتعالى أنه هو الذي أخرج فرعون وجنده من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، وأشهدنا عز وجل أنه هو الذي أزلف هناك في اليم فرعون وقومه ومن معه، فسبحان الله! والله عز وجل أشهدنا أنه أرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً.
والله عز وجل أشهدنا أنه جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون! والله جعلنا نشهد في كتابه بوحيه أن ما يجري من عداوة الشياطين لدعوة الأنبياء إنه هو الذي جعلها قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:١١٢].
الله سبحانه وتعالى أشهدنا أنه جعل لكل نبي عدواً من المجرمين، وأشهدنا سبحانه وتعالى هدايته لمن شاء له الهداية، وإضلاله لمن شاء له الإضلال.
وأشهدنا عز وجل أنه النصير لمن شاء نصره ولو اجتمعت الأرض ومن فيها على هزيمته {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:٣١].
فشهود هذه المعاني يجعل العبد يعيش في جو آخر، يعيش في دنيا غير دنيا الناس، الناس لا يشهدون من وراء الأحداث التي تقع إلا مظاهرها الحاضرة أمام أعينهم، ولكن لابد أن ترى ما وراء ذلك وما قبل ذلك وما معه من أوامر الله النازلة، ترى ما قبله من الكتب في اللوح المحفوظ، وما سبق ذلك من علم الله سبحانه وتعالى، وما مضى من إرادته النافذة، وتشهد كما ذكرنا نزول الأوامر من عنده نافذة كما أمر في إحياء هذا وإماتة ذاك؛ لإعزاز هذا وإذلال ذاك، أن تشهد أن مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كما أن له الملك فله الحمد، له الملك يدبره كيف يريد سبحانه وتعالى، وهو محمود على ذلك، وكم ممن أعطاه الله عز وجل ملكاً عالياً يبتليه بذلك فإذا به يتصرف تصرف السفهاء فلا يحمد على ذلك، وكم من حكيم له حكمة ومعرفة ولكنه لا يملك، لكن الله له كمال الملك والحمد، له الملك وله الحمد، وتفرد بكمال القدرة.
هذا الذكر العظيم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) يأخذ قلب العبد إلى آفاق بعيدة عما يرى من حياة الناس من صراعاتهم، وليس أنه يبتعد عن الصراع بل هو في أتون هذا الصراع كما يقولون، هو غير معتزل في حقيقة الأمر، أو مجرد متفرج على الصراع الذي يجري، إنه وسط هذا الصراع بالفعل، ينصر دين الله، ويبذل ويضحي، لكنه يرى دائماً ما وراء أفعال الناس، الناس يتصورون أن أفعالهم هي الموجبة، وأن إرادتهم هي النافذة، وهو يرى وراء ذلك أمراً آخر، وفوقه أمر آخر يرى أوامر الله بكن فيكون، ومشيئته سبحانه وتعالى النافذة، وقدرته الشاملة لأفعال العباد الاضطرارية والاختيارية، ويرى في النهاية العاقبة التي أرادها الله عز وجل لكلا الفريقين، لأهل التقوى والإيمان، ولأهل الكفر والفسوق والعصيان.
وهذا إنما يشهده من نظر في التاريخ، ولا نعني بالتاريخ مجرد الحكايات، لكن نعني بالتاريخ سيرة الأمم مع أنبيائها، سنة الله سبحانه وتعالى التي مضت، إن القرآن قص علينا من مواقف الأنبياء وأفعالهم ومن معاني الإيمان التي شهدوها مالا يوجد في كتاب، ولا يوجد فيما يتلوه الناس من أخبار، وما يتناقلونه من تواريخ، لا نظير لكتاب الله سبحانه وتعالى، يقطع من تذوق حلاوة الإيمان بهذا الكتاب إنه كلام الله الذي لا نظير له ولا مثيل له ولا شبيه لهذا الكلام أبداً، وخصوصاً إذا قرأ الإنسان غيره من الكتب التي دخلت فيها أيدي الناس مما أصله نزل من السماء من عند الله عز وجل، ولكن دخلت فيها أيديهم بالكتابة والزيادة والنقصان، والتبديل والتحريف، أو فيما خطه الناس من تلقاء أنفسهم من حكايات التواريخ.
نقول: إن نظرة في تاريخ الأمم والشعوب، وتاريخ الصراع الذي يجري؛ لهي مما يضيء لأهل الإيمان طريقهم، ويحقق معاني الإيمان في قلوبهم؛ فيحصل لهم نور الرجاء في قلوبهم، كما ذكرنا أن الأمر الأول الذي يحصل الرجاء هو تحقيق الإيمان، وشهود صفات الرب سبحانه وتعالى التي هي موجبة لكمال الملك والحمد، ويشهد أفعال الرب سبحانه وتعالى فيما يقع من هذا الصراع وهذا الوجود، وكما ذكرنا يعيش ببدنه مع الناس ولكنه يعيش بقلبه في جو آخر، كما قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٨٦]، وهل كان أبناؤه كفرة؟ لا، ولكن لم يستحضروا ما يستحضره من أن الله هو الذي يفعل، وهو الذي يدبر، وهو الذي يعطي، وهو الذي يجتبي، وهو الذي يعلم، وهو العليم الحكيم، وهو الذي يأتي بالخير، وهو الذي يمن بفضله على من يشاء كما من على من سبق، وهو يشهد هذه المعاني، ويعلم من الله عز وجل؛ من عواقب ونهايات الأمور، ومن فعله عز وجل بالناس ما لا يعلمون، ولذا وقفوا على حد التصرفات الظاهرة.