وأما التكاثر: فهو أن يكون أكثر من غيره، كالذي قال الله تعالى فيه:{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف:٣٤]، وشعور الإنسان بالكثرة ينافي حقيقته وقد خلق وحيداً، وقد خلق في بطن أمه لا يشعر بشيء مما حوله، ثم يدفن وحيداً يوم يوضع في قبره، فأي نفع بالكثرة وقد خلا كل إنسان ممن مضى في قبره الآن بالشقوة والسعادة، فحتى أقرب المقربين إليك ممن كنت تحبه وما زلت تحبه ممن رحل عن هذه الحياة، هل تستطيع أن تبقى حتى إلى جوار قبره ساعتين أو ثلاث ساعات من يومك؟ فأحسننا حالاً من يزوره كل مدة من الزمن؛ ليسلم عليه في دقائق أو ثوان ويدعو بدعوات ثم ينصرف، وكان ولم يزل حبيباً إلى القلب بلا شك، ولكنه خلا بما قدم وما أسلف.
وهكذا في عموم جنس الإنسان كل منا يخلو وحده بعد ذلك، فما أحراه في حال الحياة أن يكون كذلك باحثاً عما يقدمه لنفسه، منفرداً يعامل ربه وحده، ولا يجعل كثرة المال والولد غاية مقصودة، ولا يجعل مكاثرته لهذه الدنيا هدفه المنشود، قال تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:١ - ٢]، فقد كانوا من كثرة تفاخرهم وتكاثرهم يذهبون إلى المقابر؛ ليعدوا أمواتهم؛ وليفتخروا بهم على عادة العرب في الجاهلية، وقيل:((زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) معناه: أن الإنسان يبقى فيها مدة، ثم يرتحل عنها إلى الآخرة، فكأنها زيارة، والذي يظهر -والله أعلم- هو الأول، فإن عادة العرب التكاثر بمن مات، ولو كانوا من أزمنة بعيدة، وكان ذلك من عاداتهم المعروفة، قال تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}[التكاثر:١ - ٥] أي: لما فعلتم ذلك؛ ولو علمتم علم اليقين لآثرتم الآخرة وتركتم الدنيا، {لَتَرَوُنَ الْجَحِيمَ}[التكاثر:٦]، فأكد الله عز وجل أن من ألهاه التكاثر فسوف يرى الجحيم، ثم يعذب به بعد ذلك، قال تعالى:{ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:٧ - ٨].