[رءوس الطواغيت]
رءوس الطواغيت خمسة: الشيطان الداعي لعبادة غير الله؛ ولذلك كل عبادة لغير الله مردها في النهاية إلى عبادة الشيطان، ولذلك كل كافر بالله مشرك؛ لأنه عبدٌ للشيطان؛ ولأنه عبد غير الله سبحانه وتعالى.
فالشيطان هو الداعي إلى عبادة غير الله، كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:٦٠].
والمبدل لأحكام الله طاغوت، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١].
والفرق بين هذا وبين الذي قبله: أن المبدل ينسب الأمر هذا إلى الدين، ويقول: إنه إلينا، فيعتقد الناس أن له حق التبديل، مثل اعتقاد اليهود والنصارى في علمائهم وأحبارهم ورهبانهم، بأن لهم الحق أن يشرعوا لهم، فيحللون لهم، ويحرمون عليهم -والعياذ بالله- من دون الله.
فمثلاً: تجد النصارى في العالم كله يأكلون الخنزير، مع أنهم معتقدون بأن الكتاب المقدس -العهد القديم والعهد الجديد- يحرمه عليهم، والعهد القديم بإجماع العقلاء كلهم فيه تحريم الخنزير، واليهود يحرمون الخنزير، ولكنهم تركوا كتاب الله؛ بسبب قرار مجمع من مجامعهم الذي قرروا فيه إباحة لحم الخنزير! وهذا يوضح تماماً اعتقادهم في أن الناس من حقهم أن يبدلوا.
ومن الطواغيت الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، وليس بشرط أن ينسبها للدين، وإن كان البعض يحاول أن يقصرها على ذلك، والحاكم بغير ما أنزل الله أسوأ؛ لأنه يدعي لنفسه حق التشريع مبدئياً من غير ما ينسبها للدين والعياذ بالله! وكلاهما طاغوت، ومتجاوز للحد، فإن بعض الدساتير تنص على أن مصدر السلطات كلها هو في يد الملك، وحتى التشريعات تصدر باسم الملك، وفي الدول الجمهورية تصدر باسم رئيس الجمهورية، وهو يقول: باسم الشعب، بل في النظام الملكي في كثير من البلاد أن الدساتير كلها هبة من الملك، فمثلاً: الدستور الياباني كل شيء يصدر عندهم باسم الإمبراطور، والإمبراطور هو مصدر السلطات، وهذه كلها -والعياذ بالله- من المناقضة لتوحيد الله عز وجل.
وأصل الطاغوت من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من جاوز حد العبودية، وزعم لنفسه حقاً أو صفة من حقوق أو صفات الألوهية، فهو طاغوت.
فالشيطان الذي يدعو الناس إلى عبادته وطاعته في الكفر بالله ورسوله، وفي مخالفة شرعه، قد جعل لنفسه حقاً من حقوق الإله الحق، وهو: الطاعة المطلقة، فمن أطاعه طاعة مطلقة حتى في الشرك والكفر وتكذيب الرسل فقد عبده، وعلى هذا فإنا نقول بأن الشعب يصبح عبداً للشيطان إذا أطاعه طاعة مطلقة، وليس كل عاصٍ يصبح عابداً للشيطان، وإنما في حالة الطاعة المطلقة التي تشمل أنه مستعد لأن يطيعه ولو في الكفر، ولو في تكذيب الرسل.
كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:٦٠ - ٦١]، فإنه من المعلوم أن أكثر العالم كانوا لا يعبدون الشيطان بالصلاة والسجود له، أو اعتقاد ألوهيته، بل إنما كانت عبادتهم له بطاعته في الكفر.
ويجب التنبيه هنا إلى أن طاعة الشيطان في المعاصي من الشرك، وإذا وجد في القلب الإنكار الباطن الذي يجعل العبد وإن عصى ربه يقر على نفسه بالذل، ويعترف بالذنب، فلا تصبح هذه المعصية عبادة للشيطان تخرج الإنسان من الإيمان، وقد قال الأبوان: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣].
والحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله قد جاوز العبودية التي تستلزم تلقي أحكام الله بالقبول والإذعان، وعدم المنازعة، ونسب لنفسه صفة الربوبية بالتشريع، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، فلو ادعى لنفسه أن له الخلق مثل الساحر فقد طغى أي: جاوز الحد، فهو طاغوت.
ولو أن شخصاً قال: لي الأمر، فقد طغى وجاوز الحد.
فالله تبارك وتعالى كما تفرد بالخلق، فهو متفرد بالأمر شرعاً وكوناً، شرعاً بمعنى: التشريعات، وكوناً بمعنى قوله: (كن) فيكون.
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:٢١].
وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:٤٠].
فاعتقاد أن التشريع أو الحكم لله وحده من معاني توحيد الربوبية، ثم إن تطبيق ذلك بأفعال العباد بالتحاكم والحكم بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني توحيد العبادة والإلهية، فهذا الخضوع هو التوحيد العملي، والأول اعتقادي؛ ولذلك كان من أعظم عبادة الطاغوت تحكيمه في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وأرواحهم.
وكذلك المبدل لأحكام الله الذي يدعي لنفسه حق تبديل الأحكام التي أنزلها الله حسبما يراه بعد إقراره وعلمه بأن الله أنزله، كالأحبار والرهبان الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة:٣١] وتفسيرها: أنهم اتبعوهم على تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإذا كان الله قد أنكر على المشركين طلبهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدل القرآن فقال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس:١٥] فكيف يتصور أن يكون هذا الحق لغيره؟!! فالظن بأن لأحد من الخلق أن يبدل أحكام الله حسب نظره وهواه من ظن الجاهلية والعياذ بالله! والساحر طاغوت؛ فإنه جاوز الحد، ونسب لنفسه ملك الضر والنفع، وتقليب القلوب حباً وبغضاً وتأليفاً, وقد يزعم الخلق والإحياء والإماتة، وقد يقول: أنا سأجعل العظم حياً، أو أنا سأوقع بين فلان وفلان كذا، أو أحبب فلاناً في فلانة ونحو ذلك.
وكل هذا من الطغيان؛ إذ هذه كلها من صفات الله وأفعاله وحده لا شريك له.
والكاهن طاغوت، وهو الذي يدعي لنفسه صفة علم الغيب التي اختص الله بها، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:٥٩].
فكل واحد من هؤلاء قد طغى، وجاوز الحد، فصار بذلك طاغوتاً يجب الكفر به، حتى يتحقق معنى النفي في (لا إله إلا الله).