ثم ذكر الله المؤمنين بالصادقين الذين مضوا موفين بالعهد مع الله عز وجل، صادقين في أقوالهم، وأحوالهم، وأعمالهم، ليقتف من بعدهم أثرهم، فقال تعالى:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:٢٣].
تأمل أولاً هذا التبعيض:((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ)) فليس كل المؤمنين بهذه الصفة، فالمؤمنون الكمل هم الذين وصلوا إلى هذه الغاية، وليس كل المؤمنين بهذه الدرجة من الصدق، وهؤلاء الصادقون هم الذين يثبت الله بهم باقي الطائفة المؤمنة، وهم الذين ينصر الله بهم بقيتهم وينصر الله عز وجل بهم دينه، وهؤلاء هم من جنس من قال الله عز وجل فيهم:{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:٢٤٩ - ٢٥٠]، فتتفاوت القلوب، كما يتفاوت الإيمان فيها؛ فهذا طالوت لم يجاوز معه النهر إلا مؤمن، ومع ذلك فأغلبهم قالوا كما قال الله تعالى:((قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ))، فبقية قلة مؤمنة وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، استخلصوا من عشرات الآلاف، وقد كان بنو إسرائيل قبل النهر أكثر من ثمانين ألفاً كما ذكر في الآثار، وما جاوز مع طالوت النهر إلا ثلاثمائة وبضعة عشر، ومع ذلك فلم يكونوا كلهم على نفس الدرجة، وإنما كان منهم صادقون يوقنون أنهم ملاقو ربهم، وهؤلاء هم الذين ثبت الله بهم البقية.
فكذلك قوله تعالى:((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ)) فهؤلاء الرجال هم خلاصة المؤمنين وخلاصة البشرية، وهم خاصة أتباع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
كان منهم أنس بن النضر كما يذكر أنس رضي الله تعالى عنه:(كنا نرى أن هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:٢٣] نزلت في أنس بن النضر وأصحابه)، ومعنى قضوا نحبهم أي: وفوا بعهدهم.
قال تعالى:((رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))، قال أنس بن مالك -وكان سمَّي بعمه- غاب عمي أنس بن النضر عن غزوة بدر، فقال: لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً ليرين الله ما أصنع، وهاب أن يقول غيرها.
فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني: المشركين- ثم انطلق ليقاتل، فلقيه سعد بن معاذ فقال: يا سعد! واهاً لريح الجنة، إني لأجده دون أحد، قال سعد: فو الله يا رسول الله! ما استطعت أن أصنع ما صنع، قال أنس: فوجد قد قتل وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وما عرفته إلا أخته ببنانه، أي: بعلامة في طرف إصبعه، أي: ما عرفوه من كثرة الجراح رضي الله تعالى عنه، وكانوا يرون أن هذه الآية نزلت فيه وفي أمثاله كـ مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، وحمزة بن عبد المطلب، ومن قتل على الصدق مع الله عز وجل.
فعندما يوجد هؤلاء فينا ولو كانوا قلة تتغير موازين الحياة على وجه الأرض، وإنما يكون ذلك بصدق الإرادة وصدق التوجه إلى الله عز وجل، والصدق في الأمور كلها؛ والصدق صفة أساسية للمؤمن يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً، والصدق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)، وليست الصديقية بمنزلة هينة، ولا بشيء ينال بالتمني، ولكن بتحري الصدق قولاً وعملاً وحالاً حتى يكتب عند الله صديقاً.