الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فإن من بيان القرآن العظيم بيان ما يفعله الإيمان في شخصية الإنسان، وتحويله هذه الشخصية تحويلاً عجيباً في لحظات، فيرفع صاحبه من أسفل سافلين إلى أعلى القمم، وهذا ما نلحظه في حال السحرة، فلقد جاء السحرة من كل مكان ولهم هم واحد وهو المال، يسيل لعابهم للأجر الذي يتوقعونه من فرعون، وذلك مما يُشْعر بالجشع وحقارة النفس، وقد قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الشعراء:٤١ - ٤٢] أي: أنه زادهم أكثر من المال وهو التقريب من فرعون، فالتقرب منه له منافع عديدة عندهم، وسوف يؤدي إلى مصالح أكثر من الأموال بكثير، فيجدون أموالاً مستمرة، ووجاهة ومنزلة، وهكذا كانوا يرون قبل هدايتهم أن هذا الذل الذي هم فيه هو سعادتهم، مع أن فرعون كان يكرههم على السحر، لكنهم كانوا يرون أن هذه هي أنسب طريقة للبحث عن العلو في الأرض والكبرياء، وكان لديهم اهتمامات شيطانية وحيوانية والعياذ بالله، قال عز وجل عنهم:{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا}[طه:٦٣]، والعجيب أنه لم يحصل مرة أن سيدنا موسى طلب منهم أن يخرجوا من الأرض، ولكن فرعون اخترع هذا وافتراه، وأقنع به كل من حوله حتى صارت عندهم قناعة أن موسى يريد أن يخرجهم من الأرض، مع أن الطلب الذي يريده موسى هو أن يؤمنوا بالله وبرسله، أما خروجهم من مصر فلم يطلبه منهم، وإنما هذا كذب من فرعون، فتابعه قومه في غباء وجهل عظيم.
قال تعالى:{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}[طه:٦٣] أي: أن الطريقة التي كانوا عليها يرونها أنسب طريقة، مع ما فيها من الخلل العقائدي والفكري والعملي والسلوكي، والتبعية المهينة والعبودية لفرعون، فكان يقول: أنا ربكم الأعلى، والناس قد تعودوا على الطاعة العمياء إلى درجة أنهم دخلوا البحر وراءه في مغامرة عجيبة والعياذ بالله، ومع ذلك يرون أنها الطريقة المثلى {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}[طه:٦٤] وهذا العلو من الاهتمامات الشيطانية التي كانوا يتمنونها.