القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يصرفها كيف يشاء، وأنه لا ينفع نسب ما لم يكن عمل، (فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال:(ألا إن آل فلان ليسوا بأوليائي إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين).
وكذلك لتتحقق عقيدة الولاء والبراء اعتقاداً وعملاً وسلوكاً في موقف إبراهيم عليه السلام من البراءة من أبيه في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:١١٤].
وفي الآخرة يتبرأ منه أيضاً كما ثبت في صحيح مسلم (أن إبراهيم يلقى أباه آزر فيقول: يا أبت ألم أكن أنهك؟ فقال: يا بني إني لا أعصيك اليوم، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أب أبعد، فيقول الله عز وجل: يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين -أي: حرم الجنة على الكافرين- فينظر إليه فإذا هو ذيخ متلطخ -أي: فإذا هو قد مسخ ضبعاً متلطخاً بعذرته- فيؤخذ بقوائمه الأربع فيلقى في جهنم)، فيتبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه في الآخرة كما تبرأ منه في الدنيا، ولقد جعل الله عز وجل صورة أبيه المعذب في صورة ضبع متلطخ بنجاسته حتى لا يتأذى إبراهيم بصورة أبيه الذي يعرفه وهو يعذب في النار، نسأل الله العافية.
فالله عز وجل أعلم بالمهتدين، ولقد قدر الله عز وجل أن يوجد في أسر كثير من الأنبياء من لا يؤمن، حتى تتحقق هذه القضية وغيرها من الحكم، فقضى سبحانه وتعالى بحكمته ألا يؤمن ابن نوح رغم أنواع الدعوة التي استعملها معه نوح عليه السلام من الترفق له والدعوة باللين، والتذكير بالبنوة التي تربطه به، وتذكيره بالآخرة، ورؤيته للآيات الباهرة المعجزة الحسية الظاهرة، بالإضافة إلى الأدلة العقلية القاهرة لعقل أي مشرك معاند، ومع ذلك ما آمن ابن نوح وهو أحد أعمام هذه البشرية التي توجد الآن على ظهر الأرض؛ ومع ذلك فالكل يتبرأ منه، بل نوح عليه السلام استغفر ربه من سؤاله عنه.
وقدر الله عز وجل أيضاً وجود امرأة نوح وامرأة لوط في أسرتين من أسر أنبياء الله عز وجل، وقدر سبحانه وتعالى ألا يؤمن أبو لهب وأبو طالب عما النبي صلى الله عليه وسلم.
وقدر الله عز وجل أن يكون كثير من أقارب أهل الإيمان من الكافرين؛ لتنفصل الروابط الدنيوية وتبقى رابطة الدين، فإن الله سبحانه ما أذن لهم حتى في الاستغفار لذويهم، قال عز وجل:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:١١٣ - ١١٤]، وانفصلت وانقطعت وزالت روابط الأسرة الواحدة وبقي الإحسان.
هذه الروابط التي تنفصل هي روابط المودة والموالاة، وهذه إنما تكون على الدين وطاعة الله واتباع أمره، وأما إذا لم يكن هناك هذا الدين الواحد الذي افترض الله على الخلق جميعاً أن يتبعوه؛ فلا بد من العداوة والبغضاء.