شرع الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان التماساً لهذه الليلة، وشرع كذلك حتى يعكف القلب على عباد الله سبحانه وتعالى، فإياك أن تحضر ببدنك إلى المسجد وقلبك خارجه، فإياك أن تهتم بجعل الخباء فقط في المسجد وقلبك منفتح على الدنيا ينهل منها ويأكل ويشرب ويرتع مع الراتعين، فإنما جعل الاعتكاف بهذه الصفة وعلى هذه الكيفية؛ لكي يعكف القلب على الله عز وجل، لكي يتدبر القرآن، ويحيا بهذا الوحي والروح المنزل من عند الله عز وجل، كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:٥٢].
والإنسان يحتاج إلى النور؛ ليبصر به وسط الظلمات، خصوصاً في زمن كثرت فيه الفتن وتتكاثر يوماً تلو آخر، وإنما يحتاج الإنسان لحياة القلب لكي يزن الأمور بميزان الإيمان، ولكي يضع الأمور في مواضعها كما وضعها القرآن، ولكي يعظم ما عظمه الله، ويحقر ما حقره، ويعظم ما عظمه ربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى تصير الأمور عنده كما هي في حقيقتها الشرعية.
فما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدنا أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، فهل تعكف قلوبنا عليها بعد ذلك؟ وهل لنا أن نسعى لإصلاح هذه القلوب حتى تخلص لله سبحانه وتعالى؟ وحتى تصدق مع الله عز وجل؛ ليدخل الإيمان فيها، فحينها تصلح أحوالنا ويشع النور ممن علت مرتبته في الإيمان فيضيء قلبه ثم يفيض النور على من حوله، بنصحهم وتهذيبهم وتعليمهم، فإذا بالمجتمع يحصل فيه من أنواع الصلاح، من أنواع الخير ما نعجز عن إصلاحه في سنين بل قرون، وما لا يستطيع الناس أن يحصلوه بدون معاني الإيمان في سنين طوال.