من الآيات البينات ماء زمزم التي نبعت على يد إسماعيل عندما رضيت هاجر عليها السلام بالله عز وجل مدبراً معيناً، وحافظا وكيلاً، وقالت: إذاً لا يضيعنا، وجعلت تأكل من جراب التمر وتشرب من الماء حتى نفد الماء والتمر وجاع ابنها، والله يقدر البلاء ثم يأتي الفرج، والفرج لا يأتي من البداية، وإنما يأتي بعد محنة فيها منحة عظيمة، وهكذا نبعت زمزم بعد المحنة التي تعرضت لها هاجر وابنها.
يجوع إسماعيل وهو معد لأن يكون نبياً رسولاً صادق الوعد بانياً مع أبيه لبيت الله الحرام، ناشراً للتوحيد في قومه وفي ذريته من بعده أجيالاً متتابعة، ويقدر الله عليه أن يجوع طفلاً صغيراً، حتى كاد يهلك، فأخذ يبكي والأم تتألم؛ لأنها ترى ابنها يكاد يموت من الجوع والعطش وهي لا تدري ما الحل، فنظرت إلى أقرب جبل وهو جبل الصفا، فجعلت تأخذ بالأسباب وتصعد عليه تبحث لعلها تجد مغيثاً لهما، فتخرج فتصعد على الصفا وتنظر يميناً وشمالاً فلا ترى أحداً، فتنظر إلى أقرب جبل من الصفا فتجد جبل المروة فتتجه نحوه باحثة عن مغيث لهما -وفي بطن الوادي مسافة ممهدة الآن ميسرة بين العلمين الأخضرين- فأخذت تسعى سعي الإنسان المجهود، حتى إذا صعدت مشت، حتى أتت المروة فصعدت عليها -مع أن هذا الوقت تكون فيه الشمس حارقة، ولا يستطيع الإنسان السعي في هذا الوقت في عصرنا مع وجود الشراب والمكيفات، ومع ذلك تحملت هاجر عليها السلام هذه المحنة لتكون منحة لنا جميعاً في الوقوف في هذه الأماكن، متبعين هذه السنة في السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، كما فعلت بين الصفا والمروة، سعت بينهما هاجر عليها السلام، تبحث عن مخرج، فهي لا تستطيع أن ترى ابنها وهو يموت، حتى كانت المرة السابعة بعد الإجهاد التام والجهد الكامل، وبعد أن بذلت آخر الأسباب في النجاة، جاءت المنحة من عند الله تعالى.
سمعت هاجر صوتاً فقالت لنفسها: صه، أي: تسكت نفسها، ثم قالت تخاطب من لا تدري أين هو لكنها تسمع صوته: أغث إن كان عندك غوث، فإذا هي بالملك جبريل عليه السلام عند ابنها الذي يتلوى جوعاً وعطشاً ويوشك على الهلاك، فيضرب جبريل الأرض بعقبه أو بجناحه فتنبع زمزم، فتفرح بالماء فرحاً عظيماً، ويدركها حرص الإنسان، فتقول لها: زم زم، وكانت لا تجد قطرة ماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(رحم الله أم إسماعيل لو لم تقل لها: زم لكانت زمزم عيناً معيناً)، يعني: لو لم تجمع الماء ولو لم تجعل له حوضاً، لكانت زمزم عيناً ظاهرة ونهراً جارياً، فلا يحتاج إلى آلة رفع، لكن حرص الإنسان دائماً ينقص عطاؤه، ومع تعلقه بالأسباب ينقص رجاؤه، وبقدر نقص الرجاء، ينقص العطاء، وكلما انقطعت الأسباب وعظم الرجاء عظم العطاء، فكانت زمزم المباركة التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام:(إنها طعام طعم، وشفاء سقم)، وقال عليه الصلاة والسلام:(ماء زمزم لما شرب له)، وبقي أبو ذر رضي الله عنه أربعين يوماً وليلة لا طعام له ولا شراب في مكة إلا زمزم، قال: حتى سمنت وتكورت بطني.
أي: صار سميناً وصار هناك ثنايا في بطنه من السمنة بزمزم فقط، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنها مباركة).
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله.