قال: واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي -والعدوة هي جانب الوادي- وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال:(لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال)، وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، من الأنصار، وعدد الرماة يومئذٍ خمسون رجلاً، فقال لهم:(انضحوا الخيل عنا، انضحوهم بالنبل) يعني: ارموهم بالنبل، وارموا خيلهم إذا هجموا علينا، وهو عليه الصلاة والسلام في ظهر أحد، والمشركون أمامه، والرماة على الجبل، وقد أمرهم أن يرموا خيل المشركين بالنبال، فقال:(انضحوا الخيل عنا، ولا نؤتين من قبلكم، والزموا مكانكم وإن كانت النوبة لنا أو علينا)، أي: إن كانت الغلبة لنا أو علينا الزموا مكانكم فلا دخل لكم بالقتال، وإنما مهمتكم الأساسية هي رمي المشركين بالنبال، واحذروا أن نؤتى من قبلكم؛ لأنه لو التف جيش المشركين من هذا المكان من عند جبل الرماة، ونزلوا على المسلمين من علو فسيتحكمون في المسلمين وتكون الدولة لهم، فكان المطلوب من الرماة أن يمنعوا المشركين من الرقي إلى هذا المكان فيؤتى المسلمون من قبلهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:(وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم)، أي: لا نريد إنقاذاً منكم، ولا تتدخلوا في القتال، حتى لو رأيتم المسلمين تتخطفهم الطير فلا تبرحوا مكانكم، وهذا فيه مبالغة في لزوم المكان، وتأكيد على عدم الفرار.
قال: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، أي: جمع بين لبس درعين وليس درعاً واحداً، وهذا فيه الأخذ بالأسباب، وأنه لا ينافي التوكل على الله عز وجل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعصمه الله من الناس ظاهر بين درعين، وهذا فيه أنه كان يأخذ بالأسباب، ويتخذ وقاية يتقي بها العدو، وهذه سنة الأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وسنة الصالحين، وأهل السنة ليس عندهم ترك الأخذ بالأسباب زاعمين أن التوكل على الله يكفيهم، بل يأخذون بالأسباب مع كونهم متوكلين على الله عز وجل، فهم يتوكلون على الله بقلوبهم، ويأخذون بالأسباب بجوارحهم.
فظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وأعطى اللواء لـ مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من قريش، ومصعب رضي الله تعالى عنه أحد فضلاء المسلمين، ويكفي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- يقول: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فرضي الله تعالى عنهما، وقتل ولم يقطف من ثمرته شيئاً، ولم ينل شيئاً من أجره في الدنيا، بل أجره كله يُدخر عند الله عز وجل، وإعطاء مصعب اللواء فيه إشارة عظيمة، ولطيفة دقيقة، وهي أن مصعباً رضي الله عنه كان سفير الإسلام إلى المدينة، وهو الذي دخل على يديه أكثر أهل المدينة في الإسلام، وأكثر الأنصار إنما أسلموا على يديه رضي الله تعالى عنه، وهو الذي نشر الإسلام في المدينة، لذا كان هو الذي يحمل اللواء في هذه الموقعة، ومعلوم أن أكثر الجنود كانوا من الأنصار، فكان في هذا تكريم عظيم لـ مصعب رضي الله تعالى عنه، ثم في بقائه ثابتاً على اللواء حتى استشهد رضي الله تعالى عنه وليس له من الدنيا شيء، زيادة تكريم له، فهذا فيه إشارة إلى ما له عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.