[قرب النصر عند اشتداد البلاء]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
جعل الله سبحانه وتعالى أشد لحظات البلاء آخرها، وأشد ظلمة الليل قبل الفجر، وكمال البشرى لأهل الإيمان عند ازدياد المحنة.
كان يعقوب صلى الله عليه وسلم في بلاء، فقد ابنه الحبيب يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وهو أفضل وأحب أبنائه إليه، وازداد الأمر بلاءً بأن فقد ابنه الآخر الذي يليه في المحبة، ثم فقد كبيرهم كذلك لما ابتعد عنه، ففقد ثلاثة من أولاده، فلما بلغه حبس بنيامين وعدم رجوع الثالث، قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:٨٣]، فلما زاد البلاء عليه استبشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى سوف يفرج ذلك الكرب.
واشتد البلاء على بني إسرائيل بعد أن قامت الحجة على فرعون، حيث هُزم سحرته، ثم آمنوا واهتدوا، وقتلهم فرعون، ولم يتغير شيء من موازين القوة المادية، فزاد فرعون في بطشه وتهديده وإرهابه، والملأ السادة والكبراء من قومه يحثونه على مزيد من البطش في بني إسرائيل، كما قال الله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:١٢٧ - ١٢٩]، وعسى من الله عز وجل واجبة، وإذا جاءت على ألسنة رسله فهي من عنده سبحانه وتعالى.
فلكما ازداد البلاء، واشتد الكرب، قرب الفرج -بإذن الله تبارك وتعالى- ولذلك قال يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧].
وفي هذه السورة أيضاً تجد قوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:١١٠] أي: من إيمان قومهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:٨٧] وعلى القراءة الأخرى: ((حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبوا)) أي: أيقن الرسل أن أقوامهم قد كذبتهم تكذيباً لا إيمان بعده.
فقال عز وجل: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠]، وهذه سنة الله.
وسورة يوسف نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -قبل الهجرة، وبعد زيادة الأذى- تبشر بقرب الفرج، رغم أن الأذى قد وصل إلى شخصه عليه الصلاة والسلام بعد موت أبي طالب، خديجة، حتى خططوا لقتله أو سجنه أو إيثاقه، وكل ذلك كان مقدمة قبل الفرج، وقبل النصر والتمكين بإذن الله تبارك وتعالى.
والآن البلاء بأمة الإسلام قد ازداد، واجتمع عليها الأعداء، وتكالبت عليها الأمم؛ وذلك لكي تكتمل في قلوب المؤمنين عبادة التوكل على الله سبحانه وتعالى، وينقطع التعلق بالأسباب الحسية، والواجب هو الأخذ بالأسباب الغيبية التي لا يراها الناس أسباباً، ولكنها عند أهل الإيمان أسباب، والأخذ بهذه الأسباب هو الأمر الواجب، ومن هذه الأسباب ما أمر به موسى قومه بقوله: ((اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))، ففيها أعظم ملك الله سبحانه وتعالى، وأن أمره هو النافذ، وأن الغيب كله له، عندها تتغير الموازين المادية في لحظة، بـ (كن فيكون)، بقدرته سبحانه وتعالى.
ويأتي النصر عندما يظن الأعداء أن الأمر قد انتهى، وعندما يقول كثير من أهل الإيمان: متى نصر الله؟ استبطاءً للنصر، واستعجالاً للفرج من عند الله سبحانه وتعالى.