[الأخذ بالأسباب لا ينافي الاستسلام للأقدار]
وهناك من أوامر الله القدرية الكونية التي تقع في العباد بغير إرادة منهم، ولكن لهم قدرة على أخذ أسباب يسرها الله عز وجل لهم، كما أن قدر الجوع يقع في أنفسهم من غير إرادة منهم، وكذا قدر العطش، وكذا قدر المرض، وهكذا أقدار كثيرة تقع فيهم، ولكن يسر الله لهم أسباباً لدفعها، والخلق مجبولون مفطورون على أن يأخذوا بالأسباب، فلا يجد أحد منهم جوعاً في نفسه إلا بحث عن الطعام، ولا عطشاً إلا بحث عن الشراب، وكذلك في المرض وغير ذلك يبحث الإنسان عن أسباب نجاته، فطروا على ذلك، فلو أن إنساناً لمس مثلاً شيئاً ساخناً لوجد يده تبتعد تلقائياً؛ وذلك لأنه مجبول مفطور على الحرص على الحياة، والحرص على أسباب النجاة والبعد عن أسباب الخطر، ولا تجد عاقلاً إلا يفعل ذلك.
وهذه الأسباب منها المشروع ومنها غير المشروع، فهذا تفعل فيه ما أمرك الله، وتترك ما حرم الله عز وجل، فإن الله عز وجل قد قدر الأسباب والأرزاق، وهو سبحانه وتعالى أمرك بأن تكسب الحلال وتترك الحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، خذوا ما أحل، ودعوا ما حرم، فأنت مأمور بأن تأخذ بالأسباب، لكن تأخذ ما أحل وتترك ما حرم، فتطلب طلباً جميلاً.
وهذا أمر غاية في الأهمية فيما يتعلق بحياة الإنسان، وذلك أن الأسباب أصبحت طاغية على أكثر البشر، وأصبح الأخذ بها عنوان اعتقادهم لا يبالون بأي سبب كان من حلال أو حرام، ما لاح لهم أخذوه، ويقولون: نأخذ بالأسباب! وهذا في الحقيقة دليل على ضعف اليقين أو انعدامه، وضعف التوكل على الله عز وجل أو انعدامه، فإنما تأخذ ما أحل الله لك، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨] وتترك ما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وهو عز وجل قد أذن للمضطر فيما حرم عليه في ظروف الاضطرار، وليس عندما يشتهي أو مجرد الحاجة وإنما: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:١١٩]، وليست الضرورة هي التي يتصورها الناس أن كل ما يشتهون ضرورة، فقد أصبحت كماليات الحياة عند الناس ضرورة، وإنما الضرورة ما ذكر الله تعالى في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:٣]، وهذه المخمصة هي الجوع الشديد، وهي التي يخشى منها الهلاك، فما يهلك الإنسان وما يفوت عليه حياته ومصالحه هو المعتبر، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست تبيح ما حرم الله سبحانه وتعالى على العباد، وأكثر الناس عندهم تحسيناتهم ضرورة، فحاجته إلى التجارة مثلاً أصبحت ضرورة، وحاجته إلى كماليات المنزل أصبحت ضرورة تبيح له الربا والرشوة والغش والخداع والسرقة، والعياذ بالله من ذلك! وذلك كله من الوهم الذي يخدعهم به الشيطان، فإنما الضرورات: ضرورة الدين، وضرورة النفس، وضرورة العرض، وضرورة العقل، وضرورة المال، إذا كان يزول بالكلية شيء من ذلك بحيث تتعسر حياة الإنسان فهي الضرورة، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست بالضرورات التي تبيح المحظورات.
بقي قسم ثالث من أقسام الأحكام الكونية القدرية: وهو القسم الذي لا يقدر العباد على دفعه، من مرض لا علاج له، أو من موت قريب أو حبيب، أو أمر يجري على الإنسان رغماً عنه، أو قد أخذ بالأسباب فما أنتجت، فكم من إنسان يأخذ بالأسباب ولا تحصل النتائج المرجوة التي يريدها، فعند ذلك لا بد من الاستسلام، فإذا قلت: (اللهم لك أسلمت) فأنت تستسلم لهذا النوع من الأحكام دون سخط وجزع، ودون اعتراض على أمر الله سبحانه وتعالى، فتسلم نفسك لله عز وجل، وتفوض أمرك إليه، وترضى بما قسم، ولا تختر خلاف ما اختار سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨]، هو الذي يصطفي من شاء، ويختص من شاء برحمته، وهو سبحانه يبتلي من شاء بعدله، وهو سبحانه يفعل ما يشاء في ملكه، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:١٠٧] كما قيل لـ أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، وقد علم أنه ميت، قالوا: نأتي لك بطبيب؟ قال: الطبيب رآني، فظنوا أنه يقصد الطبيب المعلوم، فقالوا: ما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد.
فهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد، لا يملك العباد إلا أن يخضعوا لأمره عز وجل، فإن خضعت له وأنت راض بقضائه وقسمه قد استسلمت له دون منازعة ومخاصمة له سبحانه وتعالى، فأنت يجري عليك القدر، وأنت مرضي عنك، وأنت مثاب، وأنت مجزي بالإحسان إحساناً، وإذا أبيت إلا المعاندة والمخاصمة والسخط والجزع فسوف يجري عليك القدر، وأنت مذموم معاقب مستحق للعقاب في الدنيا والآخرة، تجلب لنفسك أنواع البلايا بالإضافة إلى البلية التي أنت فيها، فلا تجزع ولا تسخط، وارض بما قسم الله عز وجل لك، واصبر على ما أصابك، فإن هذا هو الذي شرعه الله عز وجل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت)، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، ونقول متابعين له: اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت إلهنا لا إله إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلالة ودعاة السوء! اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين! ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا! اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر! اللهم إنا نسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار! ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك طائعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك يا أرحم الراحمين!