[الرعب للكافرين بما أشركوا مقابل الأمن للمؤمنين]
قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:١٥١].
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمن والاهم فهو المنصور، ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب، الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم، وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم؛ وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد خوفاً ورعباً، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح ((لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء.
قسمة عدل من الله عز وجل، فتجد الكافر عنده من أنواع القوة المادية كثرة هائلة، ومع ذلك هو في رعب عجيب، تلحظه في عيونه، وفي فلتات لسانه، واعترافاته، والأمراض النفسية التي تظهر فيه، والمسلمون لا يبلغون معشار معشار قوة الكفرة، ومع ذلك -ولو كانوا في أنواع المخاطر، وسط النيران، ووسط أنواع الفتن والمحن- تجد عندهم سكينة وأمن، يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢]، والظلم الأصغر يحقق قدراً من الرعب والخوف بقدر ما ظلموا، والظلم الأكبر -الذي هو الشرك- يزيل الأمن بالكلية في الدنيا والآخرة كما قالها إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨١ - ٨٢].
فالشعور بالخوف شعور مشقي للإنسان، وهو من أعظم ما يتعب الإنسان، ولا يجعله يستمتع بأكل ولا بشرب ولا بنوم، ولكن الله ابتلاهم الله بشيء من الخوف، وانظر إلى التقليل في قوله تعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ))، فتأمل وقارن بين حالي القلبين: حال قلب المؤمن، وحال قلب الكافر، قال تعالى في الكافر: ((سَنُلْقِي)) فيحس المستمع بقوة شديدة، ولذلك تجد ردود الأفعال عنيفة جداً بدار الإسلام وأهله، ولكن الحقيقة أنهم هم الذين يشقون، وأهل الإيمان رغم أسباب الخوف المجتمعة إلا أن عندهم من الإيمان مما يؤمنهم، فالله يؤمنهم بإيمانهم قال تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:٩].
قال تعالى في المؤمنين: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ)) فيحس المؤمن كأن هناك شيئاً يلمسه من بعيد، وأما الكفار فيحس بشيء يلامس قلبه ويجعله يغرق والعياذ بالله.
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:١٥٥] ومعه الدواء: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٥] دواء الصبر: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٦ - ١٥٧].
فهذا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، والحجاج يرمي الكعبة بالمنجنيق، فأُلقي حجر من أحجار المنجنيق بجواره مباشرة وهو ساجد يصلي، وأحرق جزءاً من ثيابه، وما شعر به، ولم يحس بما حدث، ولذلك ما قتل إلا لأنه كان يطلع لوحده، والناس تفر من حوله من أجل المال، ومن أجل الجاه المنتظر! فالمؤمن في أمان بإذن الله تبارك وتعالى كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم -في غزوة الأحزاب- في أمان عجيب، وكما كان إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وكما كان موسى عليه الصلاة والسلام في مواجهة فرعون، وفي كل المواقف مثبت من عند الله، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:٦٧] أوجس شيئاً خفيفاً جداً من أجل أن نعلم أنهم بشر، ومن أجل أن نقتدي بهم إذا أصابنا ذلك.
فطمأنه الله تعالى بقوله: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:٦٨]، ولذلك تغير موسى صلى الله عليه وسلم في التو واللحظة، وواجه القوم قبل أن يلقي عصاه، قال: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:٨١ - ٨٢] ومعنى (سيبطله) أي: لم يحصل بعد، ولما رمى عصاه أبطل الله عز وجل سحرهم وكيدهم: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:٤٥]، {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:١١٨ - ١١٩].
فكل مؤمن هو الأعلى؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩].
إذاً: نحتاج إلى معالجة لأحوال القلب، فلو امتلأ إيماناً امتلأ أماناً، ولو امتلأ ذنوباً امتلأ خوفاً، فكلما تبعد عن الإيمان ينقص الإيمان، فيحصل الخوف، ويحصل القلق، ويحصل الاضطراب، والكافر والظالم أشد الناس اضطراباً وقلقاً ورعباً وخوفاً، فهناك كثير جداً من الظلمة -رغم كل الحراسات والأسلحة وغير ذلك- لا ينامون إلا بالمنومات، ولا يجدون للنوم مهنأً، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، وكلما أشرك كلما ظلم، وكلما أفسد في الأرض كلما كان الأمر أشد، نسأل الله العافية.
((سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ)) والرعب هو: أشد الخوف، فهم يخافون من المرض، ويرتعبون من الموت رعباً عجيباً جداً، ويخافون من الفقر وإن كان بعيداً عنهم، ولذلك يطلب مالاً أكثر، ويكسب من الحرام ولا يشبع أبداً، فيصيبهم من الكآبة والحزن بما ظلموا، كلما ازدادوا ظلماً كلما ازدادوا خوفاً ورعباً، ولذا قال: ((وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)) فالشرك والظلم قرينان، والظلم الأصغر يقود صاحبه إلى الظلم الأكبر، والظالم أقرب الناس وقوعاً في الشرك والعياذ بالله، فالذي يظلم ظلماً ولا يتوب منه على خطر عظيم، إذ أنه بتأسيس ظلمه وترسيخ مكانته يسهل عليه أن يبيع دينه بعرض من الدنيا.