[لا يأس مع توبة]
قال ابن كثير رحمه الله: [وروى البخاري أيضاً عن عثمان بن موهب قال: (جاء رجل حج البيت فرأى قوماً جلوساً، فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء فحدثني؟ قال: سل، قال: أنشدك بحرمة هذا البيت: أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم.
قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم.
قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم.
فكبر)].
صفات عجيبة تظهر من بعض البشر فهو يبحث عن الأخطاء حتى التي ليست موجودة، وبتر للوقائع والأحداث كما يبترون الكلمات؛ ليعيبوا أهل الإيمان، قوله: فكبر، يعني صاح قائلاً: الله أكبر، يستحق أن يقتل، يستحق أن يخرج عليه، ولا يناسب أن يكون أمير المؤمنين ويكبر، أنظر الشيء العجيب؟! إنه يكبر؛ لأنه سمع سلبيات عثمان رضي الله عنه.
وفي آخر الأمر تبين له أن السلبيات التي كبَّر عليها ليست كذلك، ونسي الأعمال العظيمة التي قام بها عثمان، ولا يذكرها من باب: ولا تقربوا الصلاة، ويترك: وأنتم سكارى، والعياذ بالله.
قال: [(فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه)].
لأن الله عز وجل قد قال: ((ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) فقد عفا الله عز وجل عنه؛ لأنه صدق وتاب توبة نصوحاً، ثم وجد قلباً نادماً عازماً على الثبات في سبيل الله بعد ذلك، بالإضافة إلى الخيرات الأخرى، فكأن هذا الذنب لم يكن.
إننا نقول: هذه فيها فائدة مهمة: عثمان رضي الله عنه ثالث الأربعة الخلفاء الراشدين، وسادس أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي باتفاق أهل السنة.
وكان هناك خلاف قديم على تفضيل علي على عثمان لكن اتفقت كلمة أهل السنة على تقديم عثمان كما قدمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبايعوه كلهم بالخلافة، ووقع منه هذا الأمر، وقع منه الفرار يوم أحد وغفر الله عز وجل له.
فائدة: في هذا أننا لا نبتئس إذا وقع منا تخاذل، ولا نيأس من رحمة الله عز وجل ولا من عفوه، بل نرجوا عفو الله عز وجل ونبادر بالرجوع والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولنا في الصحابة الأسوة الحسنة، ولنا في عفو الله الرجاء العظيم، ولنا في سعة رحمته الرغبة لأن نثق برحمته سبحانه وتعالى لا بأعمالنا، وأن الأمور عنده سبحانه وتعالى بموازنة الحسنات والسيئات، أعني: أن هذه الكبيرة التي اُرتكبت ليست تحبط الأعمال الصالحة العظيمة التي قام بها هؤلاء الأفاضل رضي الله تعالى عنهم.
ويؤلمك هذا الأمر، وهو أن الهول كان شديداً حتى جعل هؤلاء الأفاضل يفرون من المعركة، وعوتبوا فيه ورُبوا وهذبوا حتى صلحوا لقيادة العالم؛ فعاتبهم الله بقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:١٤٣].
فالكلام سهل، والأماني تغر صاحبها أحياناً ويظن أنه صادق في الطلب، فإذا كان قد وقع من هؤلاء الأفاضل أنهم حين رأوا الموت لم يتحملوا الثبات هذه اللحظات وهم من هم في المنازل العالية؟ فكيف بغيرهم؟ فإياك أن تغرك نفسك، وإياك أن تكون أحلامك وأمانيك عندك كأنها حقائق، فإنها لا تصبح كذلك إلا إذا نزلت على أرض الواقع، ومورست هذه الأعمال الإيمانية فعلاً بالصدق واليقين.
قال ابن عمر: [(أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه)].
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن له الأجر في الآخرة، فهو ممن شهد بدراً بالمعنى؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي استبقاه لرعاية ابنته التي كان يمكن أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم الخروج لأجلها، وهذا من فضائل عثمان رضي الله تعالى عنه.
قال: [(وأما تغيبه عن بيعة الرضوان: فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة)].
وبيعة الرضوان كانت بسبب إشاعة قتل عثمان، فالعجب من هؤلاء الخارجين الذين يطعنون في أهل الإيمان ولا ينظرون إلى فضائلهم.
قال ابن عمر: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده، بايع لـ عثمان فيد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من يد عثمان في نفسه فأي شرف أفضل من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يبايع عن عثمان.
قال: اذهب بها الآن معك)].
وهكذا يصنع القوم إشاعات من أجل أن يبيحوا الخروج على عثمان وقتله رضي الله عنه.
والشاهد من هذا: أن من ضمن من صِرفوا إناساً من أفاضل وكبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكنها كانت درساً عظيماً للصحابة رضي الله عنهم استفادوا منه في حياتهم بعد ذلك، وفي جهادهم في سبيل الله، وفيما قاموا به من نشر الإسلام في كل المواطن، فاختلفت مواقفهم بعد أحد، فقد صاروا أكثر إيماناً، وأكثر قرباً من الله بعفوه وفضله ورحمته.
ثم قال ابن كثير: [وقوله تعالى: ((إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَد)) أي: صرفكم عنهم، (إذ تصعدون) يعني: حين (إذ تصعدون) أي: في الجبل هاربين من أعدائكم، وقرأ الحسن وقتادة: (إذ تَصْعَدون) أي: في الجبل.
(ولا تلوون على أحد) أي: وأنتم لا تلوون على أحد، (لا تلوون) لا يلوي: لا يلتفت، لا ينظر إلى أحد من الدهش والخوف والرعب مواقف شديدة].
((وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)) أي: وهو وقد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة].