الله سبحانه وتعالى هو منور السماوات والأرض، قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:١]، إن الذي يعرفه الناس من هذا الوجود المحسوس إنما هو بالنور الذي خلقه الله فيه، وقد ذكر الفلكيون أن الظلام في هذا الكون المشهود يبلغ أكثر من ٩٩%، وأما النور الموجود فيه فهو ١% أو أقل من ذلك، فما الظن -عباد الله- بما نجهله ولا ندري عنه؟! فانظروا إلى هذه الأنوار كلها: نور الشمس، ونور القمر، ونور النجوم وسائر الكواكب، وغير ذلك، فهو شيء يسير في هذه السماء الدنيا، وما لا نراه ولا نعلم عنه أضعاف مضاعفة؛ وذلك لنتعظ، ولنعلم محدودية علم البشر، ومحدودية قدرتهم، وأنهم في هذا الكون الواسع لا يدركون ولا يحيطون من علم الله إلا بما علمهم.
وهكذا أيضاً في النور المعنوي (نور القلوب)، فإن كثيراً من الخلق يعبدون غير الله عز وجل، قد أظلمت قلوبهم، ولم تستنر بنور الوحي الذي أنزله سبحانه وتعالى ليضيء للناس طريقهم، وليفهمهم حقيقة هذا الوجود، فلينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وليعلموا أن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب المبين الذي هو النور كما قال عز وجل:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة:١٥].
وكذلك أرسل الله رسله وهم أنوار، وخصوصاً خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم السراج المنير، وليس معنى ذلك أنه مخلوق من مادة غير الطين فهو بشر صلى الله عليه وسلم، خلق من آدم، وآدم مخلوق من تراب، وكل الأنبياء كذلك، فهم نور القلوب الذي تستضيء بها، وتعرف حقيقة هذا الكون الواسع الهائل المترامي الأطراف الذي لو تأمل الإنسان نفسه فيه لعلم أنه كالذر والهباءة الصغيرة أو أقل من ذلك، فإن الإنسان بالمقارنة إلى هذا الكون الواسع الكبير حجماً كأنه لا شيء على الإطلاق، فما أضعفه! وما أصغره! وما أذله! وما أحقره! وما أقل قدراته وعلمه! وهكذا إذا نظر إلى الزمان الذي قبله والذي بعده، فلو قورن بما مضى من بداية الخلق فقط لكان كالهباءة أو أقل، ولو قورن بما سوف لكان مثل ذلك، فكم يكون الإنسان؟ وما هي حقيقة حجمه زماناً ومكاناً؟ فإذا قورن ذلك بالأزل وبالأبد، علم الإنسان حقيقة أمره، وأدرك ضعفه وعجزه، وفقره وحاجته إلى ربه سبحانه وتعالى.
فعلى الإنسان أن ينظر إلى حقيقة وجوده، لماذا أوجده الله على تلك الصورة وعلى هذا الحال؟ ولماذا خلق السماوات والأرض؟ هذا السؤال الفطري هو الذي عميت عنه قلوب أكثر البشر، وامتلأت بالظلمات بسبب إعراضها عما جاءت به الأنبياء.
وتأمل أن الله سبحانه وتعالى جعل النور في قلوب أوليائه التي فاض عليها من قلوب أنبيائه، فأنبياء الله عز وجل هم السرج المنيرة التي تنير بكتب الله سبحانه وتعالى التي هي النور المبين، الذي يبين لمن سمعه وقرأه أنه الحق، ويبين الطريق لمن التزم به، وآمن به وصدقه، وعمل به، فهو سبحانه وتعالى قد من على عباده المؤمنين بأعظم نعمة حين جعل في قلوبهم النور فأدركوا أن الله عز وجل خلقهم لغاية حكيمة، وأنه سبحانه وتعالى جعل لهم مهمة عظيمة، اصطفاهم بها واجتباهم على خلقه وهي: أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وأن يعرفوه ويحبوه، ويخافوه ويرجوه، ويتوكلوا عليه، ويلجئوا إليه، ويسندوا ظهورهم إليه سبحانه وتعالى، متوكلين عليه، متحصنين به، مستعيذين به، مستعينين به سبحانه وتعالى، وكذلك في كل أنواع العبادات الأخرى، خلقهم الله عز وجل لذلك، فعرفوا لماذا وجدوا، وما هو الهدف من خلقهم، ثم عرفوا ما هم مقبلون عليه من القيامة والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وهذا كله من آثار نور الإيمان، وهم كذلك يرون بنور الله سبحانه الذي جعله في قلوبهم المثل العليا في صفات الأنبياء، ويرون الأعمال الصالحة من كتب الله عز وجل، ويؤمنون بوجود الملائكة الذين يعبدون الله عز وجل ويسبحونه بالليل والنهار وهم لا يفترون، ويؤمنون بالقدر، وأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء بقدر، قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:٤٩].