الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: قال الله عز وجل: ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)).
هذا التعليم لما قدره سبحانه وتعالى من مقدم الأحزاب؛ ليظهر صبر من صبر، ونفاق من نافق، وكل ذلك بقضائه وقدره، فقد كان في قدرته أن يصرف الأحزاب قبل أن يأتوا، فلا تجتمع كلمتهم، وأن يفت في عضدهم، ويلقي الرعب في قلوبهم قبل أن يأتوا، لكن قدر سبحانه وتعالى مجيئهم، ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)).
لقد قدر الله عز وجل وجود المكروه؛ ليحصل المحبوب الأعظم الذي يحبه الله عز وجل ولا يحصل إلا بمقابلته بضده، فذلك الذي من أجله قدر الله سبحانه وتعالى أن يأتي الأحزاب، وأن يغدر اليهود، وأن تجتمع كلمة الكفرة والمنافقين وأهل الكتاب مع بعضهم على أهل الإسلام، وأن يظن المسلمون بالله الظنون، قال تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:١٢]؛ فتقدير كل هذا لأجل أن يظهر الصدق الحقيقي في أحوال القلوب، وفي ثقتها بالله عز وجل، وفي حبها ومتابعتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي خوفها من الله عز وجل دون من سواه، وفي اليقين بوعده رغم انعدام الأسباب، أو رغم أن الأسباب تأتي في الاتجاه المعاكس، والبوادر والأسباب الظاهرة تقول: إن الإسلام قد حوصر، وإنه يوشك أن ينتهي، وإن المعركة محسومة لصالح الكفرة والمنافقين.
وهنا يظهر الصدق في اليقين بوعد الله عز وجل والصدق مع الله عز وجل في الثبات؛ فإن رأيت كل دنيا المسلمين مدبرة، توقن بأن نصر الله آت ووعد الله متحقق، وما دام المؤمن عنده إيمان فلابد أن يرى ذلك، وأن يصدق مع الله في أحواله كما صدق في أعماله وأقواله، ليجزيه الله بصدقه، وأبهم الجزاء ليتسع الذهن الإنساني لأوسع العطاء، فقال:((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ))، فلم يذكر ماذا يجزيهم، وهو تعالى سيجزيهم ما لم يخطر ببال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(في الجنة ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.