يقول ابن القيم: ثم أخبر سبحانه عن حكمة أخرى في هذا التقدير، وهي: ابتلاء ما في صدورهم، واختبار ما فيها من الإيمان والنفاق، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافق ومن في قلبه مرض لابد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه، ثم ذكر حكمة أخرى وهي: تمحيص ما في قلوب المؤمنين، فقال:((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ))، ليبتلي أي: ليختبر عز وجل ما في قلوب المؤمنين من ازدياد الإيمان في فترات المحن؛ لأن نقص الإيمان في فترات المحن أعظم خطراً؛ لأن الله عز وجل قال:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب:٢٢]، ففترات المحن من ربنا عز وجل لازدياد الإيمان، فإذا لم يزدد الإيمان فيها فمتى يزداد؟ هل يزداد عندما تفتح الدنيا، وعندما يأتي الرخاء؟! وهذا الأمر لابد أن ننتبه إليه، فإن الدنيا أخاذة يصيد بها الشيطان قلوب كثير من الناس، فإذا لم يكن الإنسان عند الشدائد بعيداً عن الغلو والغفلة فمتى ينتبه؟ أينتبه عندما تفتح عليه الدنيا التي يجري وراءها الأكثر من البشر؟ سوف يزداد غفلة نسأل الله العافية، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يبكي عندما تأتي الفتوحات، ويقول للصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر، نسأل الله العافية.
فهذا التمحيص هو لتحصيل زيادة الإيمان، وليبتلي عز وجل ما في قلوب المنافقين من نفاق، ولكي يظهر علناً وتظهر الصفات القبيحة، وتظهر المنكرات من ألسنتهم وأعمالهم ليعرفهم المؤمنون، ولكي لا يكون لهم الدور الذي سوف يكون لهم في المجتمع المسلم القادم، فإنه حين فتحت البلاد كان الواحد من الصحابة رضي الله عنهم يقود أمة ويغير أمة كذلك، ولم يكن للمنافقين دور في ذلك، لأن هذه الفترة كانت فترة انتباه.
حتى أن الله أظهر نفاقهم من خلال أعمالهم وأقوالهم، حتى يحذر المؤمنون على أنفسهم، ولذلك عقبه بقوله:((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ)) ثم عقبه بقوله: ((وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)).
يقول ابن القيم: ثم ذكر حكمة أخرى، وهي: تمحيص ما في قلوب المؤمنين، وتخليصه وتنقيته وتهذيبه، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة، ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى.