نريد أن نقتبس قبسات من هذه الأنوار من مواقف أنبياء الله سبحانه وتعالى متفرقة عبر التاريخ، لكنها تلتقي في هدف واحد، وطريق واحد، وهي أن هذا الرجاء يعظم عندما تكون الأسباب مخالفة، وعندما تنعدم الأسباب الموافقة، وعندما تكون ظواهر الأمور كلها في صالح الأعداء.
فلنتأمل في قصة يوسف ويعقوب صلى الله عليهما وسلم، قال الله عز وجل:{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}[يوسف:٨٤ - ٨٧]، ففي هذه الآيات عدة فوائد ولن نحصيها، أولها: أنه لما ازداد الكرب على يعقوب عليه السلام بعد فقد ابنه الحبيب الذي علم ابتلاء الله عز وجل له، وعلم صفاته المتميزة التي تؤهله لوراثة النبوة، فقده وهو أحب الناس إليه، يحبه لجميع الأوصاف التي فيه، فهو أكرم الناس، وأجمل الناس، والصفات الإيمانية قبل ذلك وبعده متضمنة لكل محبة، وفقده في أشد سن يتعلق فيه الأب بابنه خصوصاً وهو يرى ضعف باقي الأبناء وعجزهم، فتأتيه مصيبة أخرى! فقد بنيامين وفقد كبيرهم الذي قال:{فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي}[يوسف:٨٠]، ثلاثة من أبنائه يبتعدون عن أبيهم، فما تذكر بهذه المصيبة عندما نزلت به إلا أمر يوسف، تذكر المصيبة فكانت الشكوى إلى الله؛ لذلك الشكوى إلى الله عز وجل وبث الحزن إلى الله سبحانه وتعالى من أعظم أسباب تفريج الكروب، الشكوى إلى الله تسمعها في نداء نوح:{رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}[نوح:٥ - ٦]، دعاء فيه شكوى إلى الله، وتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم (يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وفي الحديث الآخر:(جعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، الشكوى إلى الله من أعظم العبادات في فترة المحنة، تشكو إلى الله وتقول: يا رب! فعلوا كذا وكذا يا رب! ظلموا وفجروا وكفروا ونافقوا.
ويعقوب عليه السلام يشكو إلى الله:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[يوسف:٨٦]، وهذا الرصيد الهائل في قلب العبد المؤمن يجعله يرجو دائماً ولا يصل أبداً إلى اليأس، بل يزداد رجاءً وإيماناً، (أعلم من الله) أي: من صفاته ومن أسمائه الحسنى، يعلم من أفعاله وسنته الماضية مالا يعلمون، يظنون الأمور تعقدت تعقداً هائلاً لا مخرج منه، أصبح بنيامين عبداً، وذاك الآخر لن يرجع لأنه لن يتمكن من أخذ أخيه، ويوسف قد ضاع من زمن بعيد، فمن أين الحصول على يوسف؟ ولكن يعقوب يشكو إلى الله.
فلنكثر من الدعاء والشكوى إلى الله، وهو عز وجل يعلم ما يفعله الكفرة ولسنا بالذين نعلم الله سبحانه وتعالى في دعائنا وشكوانا ما الذي يقع، فإن الله عز وجل أعلم منا ولكن نشكو له تضرعاً وتذللاً، والله يحب أن يسمع منا الشكوى والتضرع إليه سبحانه وتعالى، ويجب أن نظهر حزننا على ما يجري للمسلمين.
ثم قال:{يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ}[يوسف:٨٧]، ففيه الأخذ بالأسباب، وقبل أن ننتقل من نقطة الشكوى نقول: الشكوى تكون إلى الله، فمن تشكو؟ أولاً: تشكو إلى الله نفسك الأمارة بالسوء، تشكو إلى الله سبحانه وتعالى أنها لا تطاوعك على ما تريد من طاعة الله حتى يصلحها الله عز وجل لك، وحتى يهيئها لكي تتقبل الخير وتستجيب له وتنتفع به.
وتشكو إلى الله عز وجل غيرك ممن ظلم وفجر.
وتشكو إلى الله سبحانه وتعالى ما تجد من حولك من فقد المعين على الخير، والمعاون على البر والتقوى، وجلد من ليس بثقة ولا بأمين، تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[يوسف:٨٦]، فسمع نشيجه من آخر المسجد، بكى بكاءً عظيماً، وعمر كان يحمل هم أمة الإسلام، مع أنه رضي الله عنه فتح الأمصار، وفتح الفتوح، ولكن كان يتمنى حجرة مليئة بمثل أبي عبيدة بن الجراح يستعملهم، كان لا يجد من يستعملهم، تخيلوا وضع الصحابة رضي الله عنه ونوعية هؤلاء وعمر يشكو إلى الله يقول: اللهم إليك أشكو ذنب الفاجر، وعجز الثقة! لا يدري من يستعملهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يتمنى بيتاً مليئاً بالرجال يكفونه تعليم الناس وقيادتهم إلى الخير والجهاد في سبيل الله، ووزن الأمور بالموازين الشرعية، والإفتاء والقضاء والحكم وسائر أنواع الوظائف، عمر في زمنه يشكو، وكيف لا يشكو ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(الناس كالإبل المائة تكاد لا تجد فيها راحلة)؟! فإذا كان هذا في زمن الأنبياء وزمن الخلافة الراشدة فما الظن بزمننا عباد الله؟! فنشكو إلى الله أنفسنا أولاً؛ لأنها نفوس فيها ضعف وعجز وتقصير شديد، تحتاج إلى أن يصلحها الله سبحانه وتعالى، ونشكو إلى الله من حولنا ممن معنا وممن علينا، ونشكو إلى الله ونتضرع إليه سبحانه عسى الله عز وجل أن يغيثنا وأن يزيل شكوانا، ومع شدة هذه العبادة ومع الإكثار منها بإذن الله يكون الفرج، وأنت تلمس ذلك.