بعد أن بين سبحانه وتعالى آياته على يد رسوله موسى عليه الصلاة والسلام، وأبطل كيد السحرة المجرمين، وأبطل مكر فرعون وفضحه على رءوس الأشهاد في يوم الزينة وقد حشر الناس ضحى، واجتمع الجموع فرأوا آيات الله سبحانه وتعالى، وأبطل سبحانه وتعالى الباطل، وأحق الحق بكلماته، وسجد السحرة وآمنوا، واخترع فرعون المآمرة الوهمية التي اتفقوا عليها ضد موسى، ومع ذلك وجد من يطيعه في قتل السحرة، وإن كان لا يستطيع أن يمس موسى صلى الله عليه وسلم، مع أن البديهي في مؤامرة كهذه لإخراج أهل البلاد منها، أن يكون كبيرهم الذي دبر معهم هذا المكر على رأس المقتولين، ولكن من العجب يعرض عن موسى عليه السلام، ويصب غضبه على السحرة الذين كفر الله عز وجل عنهم سيئاتهم وخطاياهم وجعلهم في آخر النهار شهداء بررة، بعد أن كانوا في أوله سحرة فجرة كذبة، وهو سبحانه وتعالى أعلم بعباده، يختم لمن شاء بخاتمة السعادة، ويختم لمن شاء بخاتمة الشقاوة، حيث قضى السحرة عمرهم كله في عمل أهل النار والكفر والشرك بالله، والصد عن سبيل الله والتزيين لعبادة فرعون، وطلب الأجر والقرب منه والعياذ بالله، ثم في لحظات تحول الأمر، وكتب الله عز وجل لهم النجاة، وذلك لما اختاروا الإيمان أول ما ظهر لهم، وقذف الله عز وجل في قلوبهم حب الخير، وقذف في قلوبهم البصيرة التي أبصروا بها الدار الآخرة وبقاءها ودوامها، وألقى الله عز وجل في ظل كلام فرعون الذي يتهددهم به ما ثبتهم سبحانه وتعالى، وذلك بعد أن توعدهم بأنواع العذاب والنكال، وقال في خاتمة كلامه:{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}[طه:٧١].
وكان في هذا من التثبيت العظيم لهم، ومعرفتهم أن الله هو أشد عذاباً، وأنه سبحانه وتعالى خير وأبقى، فلذلك اختاروا أن يتحملوا عذاب الدنيا، وأن يصبروا على آلامها والتي لا تبقى كثيراً بلذتها وألمها، ويبقى بعد ذلك عمل الإنسان قريباً له في برزخه، ثم ملازماً له في بعثه ونشوره، فلذلك قالوا ما لم يكن يخطر لهم قبل على بال حينما قال لهم فرعون:{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا}[طه:٧١ - ٧٢] أي: لن نؤثرك على الهدى الذي جاءنا والبينات، ولن نؤثرك على الذي فطرنا سبحانه، فانتبهت قلوبهم إلى معان لم تكن تنتبه إليها، واستيقظت إلى حقائق لم تكن تنظر إليها، إلى بداية الأمر وإلى نهاية الأمر كذلك:{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}[طه:٧٢ - ٧٦].
معانٍ لم تكن تطلع عليها القلوب، ولكن أيقظها الله وأحياها حين استجابت للإيمان، فبادر يا عبد الله! إلى الاستجابة إلى أمر الله، فإنه سبحانه وتعالى يحب من استجاب لأمره أول ما ظهر له نور التنبيه، وأول ما حصل له من يقظة القلب، فالله عز وجل يضاعف لعبده العطايا والمنن إذا استجاب لأمر الله، وإلا فإنه يحرم التوفيق كما حرمه فرعون، وكما حرمه آله وجنوده وأعوانه وأهله وعامة أهل بلده، قال الله سبحانه وتعالى بعد أن ظهرت الآيات وقامت الحجج:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}[يونس:٨٣] أي: إلا شباباً من قومه من أهل مصر، من قوم الدعوة الذين دعاهم موسى عليه السلام، والأظهر في أن (قومه) هنا المقصود بهم: أهل مصر، وإلا فأكثر بني إسرائيل كانوا مع موسى صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه الآيات:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}[الأعراف:١٣٨] فأكثر بني إسرائيل كانوا قد آمنوا بموسى، وإنما القلة كانت من أهل مصر رغم ظهور الآيات، كمؤمن آل فرعون وغيره من شباب مصر في ذلك الوقت، والذرية: الشباب، وهذا يؤكد أن الشباب دائماً هم أمل الأمم، وهم الذين يستجيبون للحق أول من يستجيب، وعليهم مسئولية عظيمة رغم العقبات التي في طريقهم.