وهذا جهر وصدع بالحق، فليس مقام الدعوة مقام مجاملة ولا مداهنة، ولا يحتمل هذا المقام أن يتكلم الإنسان بالباطل في صيغة الحق، أو أن يسكت عن بيان الضلال البين وفضيحة أصحابه، ولا يراعي جانب أنه لا يريد أن ينفرهم، فلقد نفر كثير من أقوام الرسل بسبب كلمة الرسل بالحق، وأنهم على ضلال، وسموا ذلك شتماً لآلهتهم وتسفيهاً لعقولهم، وما دفع ذلك الرسل إلى أن يغيروا أسلوب المواجهة الحاسمة للباطل، أو يسموه بغير اسمه.
{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأنبياء:٥٤]، ذلك أن الحق لا يقوم في قلب ابن آدم إلا بهدم الباطل، والبراءة منه وعدم المداهنة فيه، وإنما يمكن للداعي إلى الله عز وجل أن يغير وسيلة الدعوة، كأن يتكلم بأسلوب يختلف عن الآخر حسب مقتضى الحال، ويمكنه أن يغير أرض الدعوة، وكان يهاجر إلى أرض أخرى، كما يمكنه أن يغير المدعوين، ويدعو غير من أعرضوا عن دعوته، ولكن لا يمكنه أن يغير الحق، ولا أن يقول الباطل، ولا أن يداهن فيما يعلم من شرع الله سبحانه وتعالى، فإنه لا بد أن يبين الباطل ويصفه باسمه، ويقول: إنه ضلال مبين.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}[الأنبياء:٥٥]، وهكذا هي هذه حياة أكثر البشر؛ فيظنون أن الأمور كلها لعب ولهو، بل حتى الدين يأخذونه باللعب، كما قال تعالى:(اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا)[المائدة:٥٧]، وقال:{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الزخرف:٨٣]، فأكثر الناس في لهو ولعب، وجعلوا قضية الإيمان تحتمل المزاح والسخرية، واللهو واللعب، بل جعلوا قضية الموت والحياة، وما أخبر الله به من البعث والنشور، وتصديق الأنبياء واتباع كتاب الله عز وجل لعباً، ولذا قالوا لإبراهيم:((أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ))، فهم تعودوا على أن يجعلوا أمر الدين لهواً ولعباً، بل إن كثيراً منهم يأخذ من الدين ما يشتهيه.
فاحذر أيها المسلم! أن تكون على هذا الطريق ولو في جزئية من جزئيات حياتك، فإن تعظيم شرع الله عز وجل وتعظيم أوامره لازم من لوازم الإيمان، بل جزء من أجزائه لا يحصل الإيمان بدونه.