للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التحذير من التجرؤ على الفتوى بغير علم]

وأكثر الناس يختلط عليهم الأمر ومن ضمن من اختلط عليهم الأمر هذا الراهب نفسه، فقد صدق مقولة الناس عنه: أنه أعلم أهل الأرض، وخدعوه بقولهم: إنه أعلم أهل الأرض، فتجرأ على الفتوى بغير علم، ولم يكن ذلك في شريعتهم ولكنها الجرأة على الفتوى، وهذا أمر منكر حذر منه أهل العلم، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الفتوى بغير علم فقال: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).

ولابد أن تكون منتبهاً فإياك أن تظن نفسك حين تعظ الناس وتذكرهم أنك بذلك بلغت منازل العلماء، أو أنك تتجرأ على الفتوى بمجرد ذلك، ولربما سألك الناس وأحرجوك في السؤال، فإياك أن تترك: لا أدري، وإياك أن تخجل منها، وإياك أن تستحي أن تقول: لا أدري، فأكابر العلماء كانوا إذا سئلوا عما لا يعلمون قال أحدهم: لا أدري، وكانوا يقولون: إن نصف العلم (لا أدري)، وكانوا يلقنون أبناءهم وتلامذتهم (لا أدري)، وجاء رجل إلى الإمام مالك فسأله عن مسائل فأجابه عن أربعة من نحو بضع وثلاثين مسألة والباقي قال: لا أدري، فقال: إذا كنت أنت لا تدري فماذا أقول للناس؟ قال: أبلغ من وراءك أني لا أدري، اذهب وانشر في المشارق والمغارب أن مالك بن أنس عالم دار الهجرة لا يدري، أيدخل الناس الجنة على أجسادنا التي تذهب إلى النار؟! فإياك أن تظن أنك إذا وعظت الناس أو ذكرتهم، أو أنك قرأت بعض المسائل أو حتى أتقنتها أنك صرت بذلك -كما يخدع الناس به الكثيرين- عالماً، فالعلم لابد أن يكون بالبينة من الكتاب والسنة في كل مسألة تتكلم فيها، وتعلم أنك قد أحطت بما ورد في هذا الباب من كتاب الله، وتعلم عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومبينه، وناسخه ومنسوخه في هذا الباب الذي تتكلم فيه، وتفهم تفسير الآيات ومعانيها وما تكلم السلف فيها من الأحكام، ثم تعرف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث الثابتة الصحيحة، وتعرف ما تثبت به صحة الحديث، ووجوه الجمع بينها، وكذلك معرفة القواعد التي يستدل بها على خاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، وناسخها ومنسوخها كما في القرآن، ثم تعلم هل أجمع العلماء في هذه المسألة أم اختلفوا؟ وإذا كانوا قد اختلفوا فعلى أي شيء يكون الترجيح فيما بينهم؟ ولابد من معرفة طرق القياس الصحيح وما ينقض به وما يرد به عليه؛ حتى لا تقيس قياساً فاسداً وأنت تظنه قياساً صحيحاً، فهذا لابد منه للعالم فضلاً عن مصادر الاستدلال الأخرى التي قد تحوجه الفتوى إلى استعمالها.