للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المسارعة إلى مغفرة الله والجنة]

ثم أمر الله عز وجل عباده بطلب الجنة، وهذا أمر لا بد أن نتنبه لأهميته، قال تعالى: ((وَسَارِعُوا)) وليس فقط أن تطلب الجنة وتريدها، أو أن تدعو إليها فقط، وإنما تسارع: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:١٣٣]، وكما في الآية الأخرى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:٢١].

فلا بد أن تستشعر بأنك في سباق، ولا بد أن تبذل كل ما عندك لكي تصل إلى الجنة، وليس فقط أن تطلبها بضعف، أو أن تطلبها وكأن الأمر قد برم لك، فأنت تسير سيراً متمهلاً لا يقلقك ولا يزعجك فوات وضياع هذا الذي تريد، لا، بل إنما ترجو طلب الخير وتخاف أن يفوتك، ولذا فأنت تسارع في الخير، وفي نفس الوقت تسابق غيرك.

وليست هذه المسابقة فقط بأن تنظر إلى من حولك من المطيعين، بل انظر إلى من حولك ممن سبقك، وهذه هي المنافسة عبر العصور التي يستحضرها أهل الإيمان الكمل.

فهذا موسى عليه السلام يبكي حينما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقه، فقال: (غلام أرسلته من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي!) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث -وإن كان فيه مقال-: (للعابد في أيام الفتن أجر خمسين، قالوا: خمسون منا أو منهم؟ فقال: بل منكم).

فانظر إلى هذه المنافسة والمسابقة العجيبة! رغم أنهم لم يأتوا بعد، ومع ذلك فهم يريدون ألا يكون أحد أسبق إلى الخير منهم، قال تعالى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)).

وهذه المسارعة إلى المغفرة وإلى الجنة لابد أن تظهر في سلوك كل مسارع، فلا يترك خيراً يفوته أبداً، ولذا فسرها السلف رضوان الله عليهم بتفسيرات رائعة جميلة: قال أنس رضي الله تعالى عنه كما حكى القرطبي عنه في تفسير قوله: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: إلى تكبيرة الإحرام.

وقال غيره: إلى الجهاد، وقال آخر: إلى النفقة في سبيل الله، وكل منهم يذكر شيئاً ينبغي أن يسارع الإنسان فيه، ويذكرون ذلك على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، فإن كل عمل من أعمال الخير لابد أن تسارع فيه وتسابق غيرك.

وهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يمشي مع بعض الصحابة، فلا يلمح مسلماً آتياً إلا ابتدره بالسلام قبل أن يسبقه فيسلم عليه، ثم قال للصحابي الذي يمشي معه: ما لي أراك يسبقك الناس إلى الخير؟! فانظر إلى هذه المسابقة منه رضي الله عنه! وهو السابق من هذه الأمة، ومع ذلك يسابق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرص على أن يبتدر من يلقاه بالسلام قبل أن يبتدره الآخر، فهو يريد الحصول على الفضيلة.

فانظر إلى نفسك هل تجد في نفسك هذا الحرص، وأنت تلحظ هذه المسابقة والمسارعة في أمر يسير جداً يقع في حياة المسلم كل يوم مرات عديدة؟ إن المسابق والمسارع هو الذي يستشعر مدى خطر تعرضه لعقاب الله، وخطر فوات الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض، فيسارع في كل خير ويبادر إليه، لذا فلا ينبغي أن نكون دائماً من المتأخرين عن حضور صلاة الجماعة حتى تفوتنا تكبيرة الإحرام، أو أن نصلي جماعة ثانية، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في التبكير والتهجير، فقال: (لو يعلم الناس ما في التهجير والعتمة لأتوهما ولو حبواً).

والتهجير: أن يأتي في الهاجرة قبل الزوال ليحضر صلاة الظهر، والوقت الذي بين الأذان والإقامة من أوله، فانظر إلى هذا الخير العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله) ونسأل الله ألا يؤخرنا عن طاعته، لكن الإنسان صاحب الهمة العالية يسارع إلى مغفرة الله عز وجل، ويبحث عن كل حسنة يتقرب بها إلى الله، فيسارع إلى طلب العلم، ويسارع إلى النفقة في سبيل الله، ويسارع إلى الجهاد في سبيل الله، ويسارع إلى حضور الجماعة في أولها، ويسارع إلى الجمعة، ويسارع إلى كل أبواب الخير، ولا يرضى بأن يسبقه إلى الله عز وجل أحد.

فهذا أحد التابعين عندما رأى رؤية فقصها على أحد السلف -وأظنه مالك بن دينار - فقال: رأيت أن منادياً قد نادى: هلموا إلى الجنة، فلم يقم إلا محمد بن واسع، فغشي على مالك بن دينار أو غيره عندما سمع هذه الرؤيا؛ خوفاً من أن يكون غيره قد سبقه إلى الله عز وجل، فهو يريد أن يكون هو السابق إلى الله.

والمسابقة والمسارعة تؤدي إلى مزيد من الترابط بين أفراد المجتمع المسلم، فهي ليست كالمسابقة والمنافسة على الدنيا التي تؤدي إلى التباغض والحسد والضغينة، وإنما تؤدي إلى مزيد من الحب والود، كما كان حال أبي بكر وعمر وهما يتنافسان في طاعة الله عز وجل، ومع ذلك كان كل منهما شديد الحب لصاحبه.

وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتسابقون إلى الخير، ومع ذلك يزدادون حباً لبعضهم البعض، فإذا وجدت مسابقة ما أو مسارعة ما، ثم يعقبها نوع من الحسد والضغينة والبغضاء فتأكد أن الدنيا من وراء ذلك، وليست هي المسارعة إلى الآخرة؛ لأن المسارعة إلى الآخرة تزيد من الإيمان والحب في الله، ومعنى الحب: أنك تحب أخاك لأنه يطيع الله عز وجل، فإذا علمت أنه يسارع مثلك إلى طاعة الله، ويسابقك إلى طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ازددت له حباً؛ لأن الله جبل قلوب أهل الإيمان على محبة من يطيع الله عز وجل، كلما ازداد الإيمان ازداد الحب في الله، والإيمان يزداد بالطاعة فتزداد المحبة، وتقل المحبة لقلة المنافسة على الخير، وإن أخذ صورة في الظاهر أنه يسارع إلى الخير ولا يوجد من يسابقه، ولو كان كذلك لأدى إلى زيادة المحبة بإذن الله تبارك وتعالى.

لكن لماذا يقع التنافس المذموم؟ ولماذا يقع التحاسد والتباغض والتفرق؟ بسبب دخول الدنيا تحت ستار المسارعة إلى الخير، فلا بد أن ننظر في هذه المسألة جيداً، وننظر في همتنا، فإن الله لم يأمرنا فقط بطلب المغفرة بل أمرنا بالمسارعة إليها، ولم يأمرنا فقط بطلب الجنة بل بالمسارعة والمسابقة إليها، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:١٣٣].

وانظر وتأمل في كيف كان حال أهل الإسلام في غزواتهم الكبرى التي أدت إلى حصول النصر العظيم؟! من المسابقة والمنافسة على الخير، فقد تنافس الناس بالأذان وتسابقوا فيه، فأقرع بينهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فخرجت القرعة لأحدهم فأذن، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لو يعلم الناس ما في الأذان ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه) وبالفعل لم يكن هناك وسيلة لتحديد من يؤذن إلا الاستهام، فأقرع بينهم سعد فخرجت قرعة أحدهم فأذن.

فلننظر في أحوالنا لماذا تأخرنا رغم أننا نؤدي ما ينبغي علينا أن نؤديه؟ أم لأننا فعلاً نسارع إلى أنواع من نعيم الدنيا ولذاتها ورغباتها، ونترك غيرنا يسبقنا إلى الله عز وجل، فننفق الأوقات الطوال في غير منفعة، وفي غير مسارعة إلى الجنة وإلى المغفرة من الله سبحانه وتعالى.