للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيفية معاملة المنافقين في الدنيا]

قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:٨٨ - ٨٩]، نزلت هذه الآيات في أناس من أهل مكة كانوا قد تكلموا بالإسلام وخرجوا في طلب حاجة لهم، وكانوا يظاهرون عدو المسلمين عليهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس علينا منهم بأس؛ لأنهم يظهرون الإسلام، ولكنهم في نفس الوقت يظاهرون عدو المسلمين من قريش، فقال بعض الصحابة: انطلقوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت طائفة: سبحان الله! كيف تقتلون قوماً قد تكلموا بما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم وأموالهم؟! فأنزل الله عز وجل: ((فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ)) أي: كيف تختلفون فيهم؟ فإنه لا يجوز الاختلاف في هؤلاء، ((فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ) أي: ردهم إلى رجاسة الاعتقاد والكفر والضلال الذي هم عليه، ثم حكم الله عليهم بحكم الكفر مع حكم النفاق، وذلك أن المنافق إذا أظهر نفاقه يختلف عما إذا كتمه، فهو إذا كتم نفاقه يحاسب به في الآخرة، وليس لنا إلا الظاهر من الأعمال والأقوال، وأما إذا أظهر نفاقه بمظاهرة ومعاونة ومناصرة عدو المسلمين عليهم؛ فإنه بذلك أظهر كفره، ولذا قال: ((وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ))، أتريدون أن تحكموا بهداية من أضله الله عز وجل وجعل نهايته العذاب والعياذ بالله؟! {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:٨٨ - ٨٩].

فهم يودون لو ترك المسلمون الإسلام وإن زعموا أنهم لا يريدون ذلك، لكنها الحقيقة، ولولا أنهم يخافون من أن يهيج الملايين من المسلمين لصرحوا بذلك، فهم يريدون أن يترك المسلمون الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويريدون منهم أن يكتفوا بمجرد الاسم دون الحقيقة ودون التطبيق والعمل، ويريدون أن يبقى الإسلام مجرد اسم ينتسب إليه الناس.

والله إن أناساً لم يكن عندهم من الإسلام إلا مجرد الاسم، ومع ذلك قتل منهم مئات الألوف في أقطار متعددة من الأرض، كما وقع في بلاد متعددة في المشارق والمغارب، ووقع ذلك بالأمس القريب في التركستان في الحكم الشيوعي الصيني، ووقع قريباً في البوسنة والهرسك، وفي غير ذلك من المواطن، ولم يكن معهم إلا مجرد الاسم، ولم يكن هناك أدنى فهم للإسلام، بل لم يكن صلاة ولا صيام ولا ترك لزنا ولا ترك لشرب خمر، ولا حتى عقيدة إسلامية، ووالله إن بعض من يخبر عن القوم في تلك البلاد يقول كانوا إذا سئلوا: من نبيكم؟ لم يدروا! بل ربما قال أطفالهم: نبينا عيسى، ولا يدرون عن محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً، ومع ذلك فهم مستهدفون؛ لأنهم يعرفون من الإسلام كلمة لا إله إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان لا يدرى فيه ما صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكن أقواماً يقولون: وجدنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها).

فانظر إلى هذا الأمر لتعرف حقيقة إرادة الكفار، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء:٨٩]، وهكذا أيضاً يريد المنافقون أن يكون الناس كلهم في الكفر سواء، فماذا بعد أن بين القرآن ما في قلوبهم؟! وماذا بعد أن بدا ذلك من فلتات ألسنتهم؟! أيمكن بعد ذلك أن يغر مغرور وأن يزعم أنهم لا يريدون حرب الإسلام؟ وأنهم لا يريدون اجتثاث هذا الدين من قلوب أبنائه بل من الأرض كلها؟ لكن الله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط، قال عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النساء:٨٩]، فهؤلاء الذين كانوا من أهل مكة لا بد أن يهاجروا إلى المدينة وإلا لم تكن بينكم وبينهم موالاة، (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:٨٩].

ولذلك نقول: إن مولاة الكفار إما أن تكون ردة كمن يحب كفرهم، ويحب ظهورهم على الإسلام والمسلمين، أو كمن ينصرهم بالقتال معهم، والخروج في صفهم مقاتلاً للمسلمين، وكذلك بأن يطيعهم في الكفر، أو يتابعهم على الشرك؛ فإن الطاعة في الكفر كفر، والطاعة في المعصية معصية، وإن كان يعتقد أن الطاعة في المعصية واجبة لأجل أمر من أمر بها فهو أيضاً من الكفر والعياذ بالله، وأما إذا كانت المتابعة والتشبه والطاعة والنصرة بمثل التجسس ونحو ذلك مثلما فعل حاطب بن أبي بلتعة مع مشركي قريش فلا تكون ردة، ولكنها سبب إلى الضلال، وهي درجة من درجات النفاق، لكن ليس الذي يستوجب الكفر الأكبر والقتل كما ظنه عمر؛ ولذا قال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنقه فقد نافق، فقال: دعه يا عمر! فلعل الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أن فعل حاطب فعل محرم، ولكنه لا يستوجب الكفر، فمن الموالاة ما هو كفر بذاته، ومنها ما هو سبيل وطريق ووسيلة إلى الكفر، وهو نفاق أصغر وكفر أصغر، وهو أعظم من الكبائر، فإن الكفر الأصغر والشرك الأصغر والنفاق الأصغر أشد من الكبائر التي هي من جنس الشهوات مثل شرب الخمر والزنا ونحو ذلك من الفواحش، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:٥٤]، فهذه صفات بينة يجب أن تكون في كل مؤمن صادق الإيمان {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:٥٤]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتفضل علينا بفضله وهو الواسع والعليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله.