[تحقق وعد الله في الابتلاءات والمحن]
يشهد المؤمن عندما يقع في أنواع المحن والابتلاء أنه إنما هو من وعد الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:٢٢].
فكان هذا هو وعد الله عز وجل لهم، كما قال الله تعالى: ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ)).
مع أنه كان بالابتلاء والمحنة، وبهجوم الأعداء ومحاصرتهم للمدينة المنورة المشرفة، وأوشكوا فيما يبدو للناظرين إذا لم يوقنوا بوعد الله أوشكوا أن يستأصلوا الإسلام وأهله، ولكن كان هذا هو وعد الله الذي ذكر في قوله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].
تخطر الخواطر في القلوب، وتأتي الواردات عليها وتتفاوت في قوتها وضعفها حين تشتد المحن على أهل الإيمان، وأهل الإيمان يرون في المحن وعد الله سبحانه وتعالى الذي لا يخلف، وهو وعد لهم بأنهم يزدادون في المحن إيماناً وتسليماً، ويزدادون إيماناً بمزيد حب الله الذي يفيضه عليهم، وبمزيد التصديق بأمره سبحانه، والانقياد لحكمه، وبمزيد التصديق بسننه سبحانه وتعالى التي أخبر بها، ويزدادون رجاءً في فضله، ويزدادون خوفاً منه، وتنقطع قلوبهم إلا من التوكل عليه سبحانه وتعالى، وعن الأسباب كلها إلا من التوكل عليه، لذا كان وعداً لهم بفضله ورحمته مع أنه فيما يبدو للناظرين أمر مؤلم ومخوف، وضرر يحيط بهم فيما ينظر الناظر، ولكنه وعد الله سبحانه قدره ليرقيهم في منازل العبودية منزلة بعد منزلة، ثم تكون لهم العاقبة، كما قالها هرقل عندما سأل أبا سفيان عن النبي عليه الصلاة والسلام: قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقال: سجال، يدال علينا مرة، وندال عليه مرة، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧١ - ١٧٣].
كلمة سابقة، ونعمة من الله سابغة على أوليائه الصالحين، وعباده المؤمنين أتباع الأنبياء والمرسلين، لا يزال وعده يتحقق لهم، قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:٤١].
فالله سبحانه وتعالى ينقصها من حول الكفار من أطرافها، ولا يزال ينتشر الإسلام فيها مدة بعد مدة، ويدخل في دين الله أفراد بعد أفراد، ثم أمم وجماعات بعد جماعات، ولا يستطيع الكفار مهما بذلوا من جهد أن يمنعوا ذلك الأمر، فهو أمر الله عز وجل، بل قلوبهم يائسة من استئصال الإسلام يوم أن تم هذا الدين، كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣].
فأنت ترى في قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:٤١] ومثلها من الآيات في هذا المعنى نزلت بمكة، والإسلام محاصر، والمسلمون مضطهدون، ومع ذلك ومع كل البذل الذي يبذله الكفار والنفقة التي ينفقونها ليصدوا بها عن سبيل الله فالإسلام ينتشر، تجد هذا المعنى كذلك عندما يجتمع على أهل الحق من أهل الإسلام من بأقطار الأرض، ومع ذلك يظلون على الحق ظاهرين، ومع ذلك يعلي الله سبحانه وتعالى بفضله كلمة الحق والدين، ومع ذلك يدخل الناس في دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنه حكم ولا معقب لحكمه أن كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم.
تسمع في وسط اجتماع أقطار أهل الأرض على أهل الإسلام: أن الإسلام في يومنا هذا وفي زماننا هذا هو أسرع الأديان انتشاراً في عقر ديار الكفار، وترى رغم الاضطهاد والأذى الذي يتعرض له المسلمون، وما يتعرضون له من إبادات في مشارق الأرض ومغاربها، ومع ذلك ترى كثيراً منهم يدفعه ذلك إلى مزيد الالتزام بالدين بفضله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، فهو سبحانه وتعالى الذي سبقت منه الكلمة التي كتبها في اللوح المحفوظ ثم أنزلها في كتبه المنزلة في الزبر: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:١٠٥].
هذا وعد الله الذي يجب أن يوقن به أهل الإيمان، وما أحوجنا أن نكرر هذا الدعاء الذي كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نوقن بهذا الأمر وإن تفاوتت في أنظار الناس الموازين، وإن رأوا أن الكفر يزداد قوة أو أن الظلم والعدوان يزداد انتشاراً، لا والله! إنه لفي مراحله الأخيرة التي يلفظ فيها أنفاسه وينتفش انتفاشة مؤقتة، كما أخبر الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:٣٦].
جمع الله في هذه الآية وعد الدنيا ووعد الآخرة، فلابد أن يتحسر الكفار على ما ينفقون من أموال ليصدوا عن سبيل الله، ولابد أن يغلبوا بعد ذلك، وهذا وعد الدنيا، ثم يحشرون إلى جهنم، وهذا وعد الآخرة، قدر الله ذلك ليميز الخبيث من الطيب، قال عز وجل: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:٣٧ - ٣٨].
هذه سنة الله الماضية التي لا تخلف، ولا يخلف وعده سبحانه وتعالى، أنت الحق ووعدك الحق سبحانك وبحمدك.
قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٥٢].
فالله صدق وعده في كل المواجهات التي وقعت بين المسلمين وبين أعدائهم، حتى فيما هزموا فيه كان صادق الوعد، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، صدقهم الله وعده حين أطاعوا الله، وحين خالفوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا وعصوا من بعد ما أراهم ما يحبون من النصر، كان وعده عز وجل لهم أيضاً خيراً لهم لا شراً لهم، كان مصلحة في حقيقة الأمر أن يهزم المسلمون ليعرفوا عاقبة المعصية، ولو أن الله نصر المسلمين على حالهم تلك لظنوا أن النصر بأيديهم، أو أن لهم منزلة لا يمكن أن تتغير عند ربهم، فيظنون بأنفسهم ما لا ينبغي لها، يظنون بأنفسهم إجلالاً وقدراً لا يستحقونه، فكان من وعد الله لهم أن نقاهم ومحصهم وهذبهم وغفر ذنوبهم، ورفع قدرهم، واتخذ منهم شهداء، فهذا فضله سبحانه وتعالى بوعده الصادق، كان وعداً منه سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين حتى بالبلاء والهزيمة، وكان خيراً عظيماً، كما قال عز وجل في قصة الإفك: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:١١].