للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تمحيص الله للمؤمنين بالشدائد]

تجد والله أمراً عظيم الأهمية لا يمكن إلا أن تحمد الله عز وجل عليه، تحمد الله على ما أصاب المسلمين في أحد من هذه السنين الطويلة ألف وأكثر من أربعمائة سنة، تحمد الله عز وجل؛ لأنه حصل فيها من الخير الذي نلمسه بأنفسنا الآن، ولولا ذلك الذي وقع لما وجدنا أنواع الخيرات، ولما كانت هذه الآيات تخاطب قلوباً وعتها جيداً، هذه القلوب التي وعت الدروس وتتكرر عبر التاريخ قصة غزوة أحد، فليست خاصة بالزمن الذي وقعت فيه، فهي في الحقيقة قصة متكررة، وأهل الإيمان في كل زمن يصيبهم هذا الانكسار، فيقدر الله عليهم الآلام رغم أنه يكره مساءتهم عز وجل، ويكره سبحانه وتعالى ما يقع في قلب المؤمن من كراهية الموت، ويتردد سبحانه وتعالى، ومعنى التردد: أنه يجتمع إرادتان؛ إرادة أمر محبوب وإرادة أمر مكروه عند الله عز وجل، ولكن لا بد من الموت، لا بد من أمر معين، لا بد من أن يقدر الله عز وجل ذلك المكروه ليحصل ذلك المحبوب، أما ترون أن الله يكره مساءة المؤمن للموت، فما أشد على المؤمن أن يرى مثلاً موتاً بأيدي الكفرة الظلمة المجرمين! وأن يرى تمثيلاً بالجثث! وأن يرى انتهاكاً للحرمات في خيرة خلق الله! هذا المؤمن العادي يكره الله مساءته، فما بالكم بـ حمزة رضي الله تعالى عنه وهو يراه النبي صلى الله عليه وسلم قد بقر بطنه وأخرجت كبده ولاكتها هند ولفظتها مقطعة، وجدعت أنفه، ما ترون في كراهية الله عز وجل لذلك؟! يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم، ويكرهه أهل الإيمان، وتتألم نفوس المؤمنين عبر التاريخ من هذه الصورة.

ما ترون في مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو الذي جعله الله عز وجل سفير أهل الإسلام إلى المدينة، وقد دخل أهل المدينة في الإسلام على يديه، ويموت وهو حامل اللواء رضي الله تعالى عنه؟! مصعب بن عمير الذي أسلم أكثر أهل المدينة من الأنصار على يديه رضي الله تعالى عنه.

ما ترون في هذه الأمور؟! لا شك أنها أمور يكرهها الله ويقدرها؛ لأن هناك من ورائها أنواعاً من الحكم والغايات المحمودة، والخيرات والعبودية لأهل الإيمان لا تحصل إلا من خلال هذا الأمر المكروه؛ ولذا نحمد الله عليه.

كما أنك سوف تطبق هذه المسألة على كل ما يصيبك كشخص، وعلى كل ما يصيبك كطائفة مؤمنة في كل زمن من الأزمنة، وطبق هذا على واقعك، فالله يداول الأيام علينا وعلى أعدائنا.

من ضمن الحكم: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، ليعلم علماً يحاسبهم عليه، ليعلم علم شهادة بعد أن علمه علم غيب، فهو عز وجل قبل أن يخلق الخلق علم ما الخلق عاملون، علم من سيؤمن ومن سيكفر، علم من سيطيع ومن سيعصي، ولكن هو يحب أن يرى ذلك أمراً واقعاً؛ ولذا فسر ابن عباس هذه الآية الكريمة: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) قال: وليرى، كما ذكره ابن كثير رحمه الله؛ لأن (يرى) فيها دلالة على علم الشهادة أن الله يعلمه أمراً قد وقع وأحبه عز وجل واقعاً، كما أراده عز وجل قبل أن يقع، أراد سبحانه وتعالى وجود هذا الإيمان وأحبه قبل أن يوجد، وأحبه سبحانه وتعالى حين وجد، ولذا قال: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، آمنوا بالفعل، ووقع الفعل منهم، ولفظ (الذين آمنوا) هم كانوا مؤمنين قبل ذلك، فذكرهم هنا بلفظ الإيمان، لأن الإيمان هنا يرتفع ارتفاعاً هائلاً في مثل هذه اللحظات، أي: لحظات المعارك الفاصلة، ولحظات التضحية والبذل، ولحظات الألم الذي يصيب أهل الإيمان والمحن التي تصيبهم، فهناك أنواع من الإيمان تحصل في مثل هذه المواقف لا تحصل في غيرها، ولذا قال: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، ولم يقل (وعملوا الصالحات)، لأنها شملت العمل الصالح، وكما ذكرنا أن أنواعاً من الإيمان تقع في هذه اللحظات لا تقع في غيرها ولا تحصل بدونها، من حب الله عز وجل، والتوكل، والرجاء، والاستعداد للبذل والتضحية، وهوان الدنيا في أعينهم، كقولهم: (ما تصنعون بالحياة بعده؟).

فهذه مواقف تغير مسار التاريخ، ويستشعرها أهل الإيمان عبر العصور المختلفة فيجدون أمراً لا يمكن أن يوصف إلا أن يوجد ويذاق، كما يقول عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنهم: (اللهم إني أسألك أن تلقيني غداً رجلاً من المشركين شديداً حرده، شديداً كفره، فيقاتلني فيقتلني) شيء عجيب والله! لا يريد أن يقتله هو! أما نحن فنقعد نفرح، أننا انتصرنا على الكفرة وأبدناهم، هذا خير، لكن فكر في هذا المعنى الإيماني عند هذا الصحابي الجليل عبد الله بن جحش (شديداً حرده، شديداً كفره، فيقاتلني فيقتلني، ثم يجدع أنفي، ويبقر بطني؛ فتسألني يوم القيامة: فيم ذلك يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب).

فهذا معناه أنه مستعد للبذل والتضحية، فهو يريد أن يُفعل به هذا الفعل في سبيل الله عز وجل، وتجده عند عمر عندما يرى ضعفاء المسلمين يضربون في مكة فلا يهدأ له بال، وهو يرى نفسه ممتنعاً من الكفار بقوته فيذهب يضرب المشركين ويغيظهم، ويقرأ القرآن جهراً عند الكعبة ليضربوه ويضربهم! فهذه معاني نادرة جداً أن توجد في القلوب؛ لأن النفوس أصلاً تفر من هذه الأمور، وتفر من هذا الألم ولا تريده، ولكن تحصل لحظات تجعل الإنسان يرى هذا الأمر نعيماً في الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أصابه في الله عز وجل.

وهذه المعاني الإيمانية التي حصلت لـ أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه، حيث وقع منه إيمان عظيم القدر لم يوجد مثله، ولا يمكن أن يوجد مثله، وذلك عندما يجد في الطريق سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن فرحاً بأن سعد قد صار من أهل السماء، سعد بن معاذ الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه).

أنس بن النضر هو الذي يثبته على الهدى! أنس بن النضر هو الذي يقول لـ سعد حين لقيه وقد ترك المعركة أو القتال فقال له: مالك؟ فقال: قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟! فقوموا فموتوا على ما مات عليه، قال: واهاً يا سعد لريح الجنة! والله إني لأجده دون أحد! معاني إيمانية عظيمة حصلت في هذه اللحظات، وتفيض روح أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه، يقول أنس رضي الله عنه: فما عرفته أخته إلا ببنانه، فوجدناه قد قتل وبه بضعة وثمانون ما بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنة برمح، وما عرفته أخته إلا ببنانه أي أنه قد أصيب من جميع الجهات رضي الله تعالى عنه، فهذه المواقف الإيمانية العظيمة التي حصلت الله يحبها سبحانه وتعالى، كما قال: ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، فقد آمن من استشهد، وآمن من صبر، آمنوا إيماناً زائداً على ما كانوا عليه قبل ذلك، آمنوا إيماناً أكمل وأعظم مما كان قبل ذلك، فازدادوا إيماناً عند الله عز وجل في هذه اللحظات، والتي كانت قوة دافعة لهم في أثناء المعركة وبعد المعركة، بل أخذوا زاداً منها إلى أن فتحوا العالم بفضل الله عز وجل.

الإعداد الذي أعده المسلمون في بدر وأحد والأحزاب هو الذي فتح المسلمون به العالم، هذا الإعداد الذي تحولوا بعده إلى غزو الكفار واستمروا على ذلك كان بداية الانطلاق، فهذه هي الأحوال الإيمانية التي حصلت في قلوبهم وليس فقط للأبدان، فهم حصلت لهم معاني إيمانية بالأبدان كالعمل الصالح والثبات، والتضحية في سبيل الله عز وجل، والقتال في سبيله رغم الهزيمة التي وقعت، والعودة حين سمعوا النداء لمن عاد والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه معاني إيمان عملية وقلبية تمت بفضل الله عز وجل في قلوبهم، وارتفعت أسهم الإيمان في قلوبهم.

قال تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، وهذا يحصل في كل ما يشابه هذه الواقعة، فيحصل من أنواع الخير في قلوب المؤمنين ما لا يمكن أن يوجد بدون تقدير الأمر المؤلم الذي هو القرح، الذي يؤلم أهل الإيمان ويسوءهم والله يكره مساءتهم، ولكن يقدر ذلك المكروه المسيء للمؤمنين لما يتضمنه من الخير الذي يحبه الله، ولما يتضمنه من الإيمان الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، الخوف من الله دون من سواه شجاعة باهرة لـ أنس بن النضر رضي الله عنه وأمثاله، وحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جبير قائد الرماة، والعشرة الذين ثبتوا معه حتى قتلوا جميعاً دون من فر من الرماة الذين بقوا، وكل من استشهد رضي الله تعالى عنهم.

السبعة من الأنصار الذين يقول النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون يطلبونه: (من يردهم عني وله الجنة؟!)، فيقوم رجل من الأنصار فيقاتل حتى يقتل رضي الله عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يردهم عني وله الجنة؟)، فيقوم رجل آخر من الأنصار، ثم ثالث، ثم رابع، ثم خامس، ثم سادس، ثم سابع من الأنصار، سبعة من الأنصار! حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا أصحابنا) أي: الذين فروا، أو (ما أنصفنا أصحابنا)، أي: المهاجرون الذين لم ينصفوا الأنصار حين تركوهم كذلك، فقام طلحة رضي الله عنه فقاتل قتال السبعة جميعاً، بل هو الذي ردهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه كلها معاني إيمانية، وهذا إيمان تجدد، فـ طلحة رضي الله عنه هو الذي أرهقهم، وهو الذي أجلاهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، سبعة قتلوا في محاولة رد المشركين وما يزال المشركون يطلبونه، وطلحة رضي الله عنه هو الذي يقاتل حتى يجلي المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع كل هذا القتال يقي النبي صلى الله عليه وسلم بيده رضي الله تعالى عنه -نحن نقول: الواحد يأتي له خطر يبعد يده كذا- ولذلك يقول بعض من رآه من التابعين: رأيت يد طلحة شلاء التي وقى بها رسول الله صلى ا