[آيات في ذكر صفة نعيم الجنة]
الله عز وجل وصف نعيم أهل الجنة بأوصاف تجعل العبد يكاد يطير قلبه شوقاً إليها، وإلى رضوان الله عز وجل فيها، قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:١٠ - ١١]، وتأمل أنه بدأ أولاً بذكر القرب من الله كما ذكرنا؛ لأنه لا نعيم إلا بالقرب منه، ولا يتنعم إلا بقربه عز وجل، والنعيم المعنوي مقدم على النعيم الحسي.
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:١٠ - ١٣] أي: جماعة كثيرة من أول هذه الأمة على أصح القولين إن شاء الله {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:١٤]، أي: من آخر هذه الأمة، وفي كل قرن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سابق {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:١٥] أي: منسوجة من الذهب، {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:١٦] أي: يقابل بعضهم بعضاً، ولا ينظر أحدهم في ظهر أخيه أو في قفاه، بل من شدة حبهم وتلاقيهم تقابل وجوههم وجوه بعض {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:١٦ - ١٧] أي: مخلدون على هيئة الولدان، فلا يسبون ولا يلغطون ولا يكبرون، وهم في غاية الجمال {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:٢٤]، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:١٧ - ١٨] أي: من الكأس التي فيها الخمر، من عين جارية على أرض الجنة، وليست في أخدود كأنهار الدنيا، وهذه الأنهار يجري فيها الخمر والعسل والماء غير الآسن واللبن كما قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:١٥] فلا يحتاجون لآلات لرفعها، وهي معين، أي: ظاهرة على أرض الجنة، سارحة منكفة بنفسها، فلا تسيل على جوانب هذه الأنهار، وحصباؤها اللؤلؤ، وترابها المسك الأذفر.
قال تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:١٩] أي: لا يصيبهم صداع كما تصيب خمر الدنيا أهلها الذين يشربونها، ولا تزول عقولهم كما تزيلها خمر الدنيا نعوذ بالله منها! {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:١٩ - ٢١].
إن المؤمن في الجنة ليتمنى الطير الذي يطير ويسرح في الجنة فيخر بين يديه مشوياً، فيأكل منه ما شاء، ثم يطير حيث شاء الله عز وجل، ولهم فيها {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:٥٢].
قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:٢٢] وعندهم حور عين، أو: ويطوف عليهم حور عين، والأول أقرب؛ لأن المؤمن هو الذي يطوف على أهله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً في السماء، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن يرى بعضهم بعضاً)، وتصور هذه اللؤلؤة في طولها في السماء، وربما عرضها على أرض الجنة مثل ذلك أو أكثر أو أقل والله أعلم، هذا طولها فقط في السماء، فكيف بما فيها من خيام وقصور وأنواع اللذات! {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:٢٢] الحوراء: هي واسعة العين، والمرأة الحوراء: هي التي بياض عينها أنقى بياض، وسواد عينها أفضل سواد، وعين: هي المرأة العيناء، وهي واسعة العين، وهذا من جمال المرأة.
{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:٢٣] أي: المستور الذي لم تمسه الأيدي كقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٥٦]، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:٢٤].
ثم ختم الآيات بنعيم معنوي آخر فقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة:٢٥] أي: لا يسمعون كلاماً باطلاً لا فائدة فيه، وإنما يسمعون التسليم، كما قال تعالى: {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:٢٦]، أعلاه سلام الرب عز وجل كلاماً منه لهم، وبعد ذلك سلام الملائكة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:٢٣ - ٢٤].
ثم يسلم الأنبياء والمرسلون، ثم الصديقون والشهداء والصالحون، فهم في حب وود عظيم لا يرى مثله.
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم:٦٢] أي: لا يسمعون فيها كلاماً باطلاً، واللغو عذاب يعذب به الإنسان، ويشقى به من الغيبة والنميمة والكذب، فهو نوع من أنواع العذاب الذي يعذب به الإنسان، والإثم: هو كل كلام فيه إثم يعذب به الإنسان، فأهل الجنة لا يسمعون سباً ولا شتماً ولا فحشاً، ولا يسمعون إلا الكلام الطيب {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:٢٥ - ٢٦].