النقطة الثانية: الأخذ بالأسباب المقدورة، قال:{يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ}[يوسف:٨٧]، والتحسس: هو البحث في الخير، (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ)، بدأ بيوسف أولاً؛ لأنه الذي شعر بمدى فقده عندما عجز هؤلاء العشرة أن يحفظوا أخاً لهم، وعجزوا أن يعيدوه له رغم الوعود والمواثيق فضلاً عن عجزهم أولاً عن حفظ أخيهم بسبب حسدهم وما كان منهم من خلف الوعد، ومن الغدر وعدم الأمانة وغير ذلك، لكنه ترفق بهم ونصحهم بأن يتحسسوا من يوسف وأخيه، فالأخذ بالأسباب المقدورة أمر عظيم الأهمية في حياتنا، قد تكون الأسباب في أيدينا محدودة، والأسباب في أيدي أعدائنا كبيرة جداً وكثيرة، ولكن لنأخذ بالأسباب المقدورة لنا، فإن هذا بإذن الله تبارك وتعالى يكون من أعظم أسباب الرجاء والبعد عن اليأس، ومن أعظم أسباب الفرج بإذن الله تبارك وتعالى، فالتحسس: البحث عن الخير، أن تبحث وتجتهد فيما تحت يدك.
وبالفعل انطلق هؤلاء الأبناء، وجعل الله الفرج كاملاً في لحظة بفضله عز وجل، قال:((وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ)) لا تيئسوا من إراحته ورحمته عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يرحم من يشاء، ويجعل الروح والراحة والإراحة من عنده سبحانه وتعالى في أي وقت يشاء، قال تعالى:((إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ))، إن اليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى من الكفر، ولذا قال صاحب الطحاوية: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام يعني الأمن من مكر الله، واليأس من رحمة الله، فالمؤمن موقن بصفات الله، ويوقن أنه الرحمن الرحيم، فكيف ييئس من رحمته وقد علم أن الله ادخر عنده تسعة وتسعين رحمة ليوم القيامة، وأنزل رحمة وزعها على الخلق، فبها تتراحم الخلائق، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها، فكيف ييئسو من هذه الرحمة الواسعة؟! الله عز وجل أرحم الراحمين، فاليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، والإلقاء باليد يأساً من الفرج؛ هو من الكفر والعياذ بالله، ومن أعظم أسباب الخذلان، قال تعالى:((وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)).
ذهبوا إلى يوسف وقد أصابهم نوع من الذل، وانكسروا له وهم لا يدرون، قال الله:{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ}[يوسف:٨٨]، انظر كيف كانوا يهينونه عندما ألقوه في البئر، واليوم يقفون منكسرين يقولون:((يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ))، إنها عزة والله، أعزه الله، وليس هذا مجرد اسم فقط، لكن أعزه الله فوقهم، يقولون:{مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ}[يوسف:٨٨]، حصل فقر شديد، وحاجة شديدة، وجاءوا ببضاعة بائرة، بضاعة لا تستحق أن تشترى، يعلمون أن بضاعتهم مزجاة، ومع ذلك يرجون الفضل، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}[يوسف:٨٨]، لسنا بالذين نجزيك، فنحن لا نستطيع أن نجزيك، وهنا ظهر الكرم الحقيقي، وظهرت الرحمة والشفقة، وظهرت الخصال الحميدة التي كانت مقتضية بتفضيله عليهم فعلاً، والتي لمحها يعقوب قديماً، وأخبر يوسف أنه مجتبا ًمن عند الله، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ}[يوسف:٨٩ - ٩٠]، كشف يوسف عن نفسه، وبين لهم أنه يوسف؛ فكان الفرج من جميع الجهات، ظهر يوسف، وظهر بنيامين، وظهر الثالث، وعادوا جميعاً، وعاد ليعقوب بصره، واجتمع شمل هذه الأسرة بفضل الله سبحانه وتعالى، جاء فضل الله وفرجه بالصبر وعدم اليأس من رحمته، وكلما ازداد الضيق اقترب الفرج، أول ما سمع يعقوب بأخذ بنيامين قال:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا}[يوسف:٨٣]، وذلك لماذا؟ {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[يوسف:٨٣]، وهكذا كان فعلاً ما توقعه يعقوب، وعسى من الله سبحانه وتعالى واجبة، وهو رجاها بفضل الله، فهذا نبي رجا من الله سبحانه وتعالى، وحصل له الرجاء عندما اشتد الكرب، فعندما يشتد الكرب يعظم الرجاء عند أهل الإيمان؛ لأنهم يعلمون أن الله هو العليم الحكيم.
وهذا من تحقيق الإيمان بأسماء الله وصفاته، فشهود آثار هذه الأسماء والصفات وأفعال الرب سبحانه وتعالى التي يرى العبد آثارها وتأثيرها في هذا الكون؛ يجعله يعظم الرجاء عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى:{قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:٩٠ - ٩٢]، أي كرم هذا؟! ونحن نرجو من الله عز وجل أكرم الأكرمين أكثر مما رجاه إخوة يوسف من أخيهم عندما استكانوا له وذلوا، ونحن قد أصابنا وأمتنا الضر، وجئنا بأعمال وصفات مزجاة، أعمالنا مزجاة لا تستحق أن تقبل، دعواتنا وعبادتنا وصفاتنا لا تؤهلنا لشيء، أعمالنا مزجاة، وجئنا بأعمال مزجاة، بضاعتنا لا تصلح أن يشتريها الرب سبحانه وتعالى إلا بكرمه، فنسأله أن يقبل منا ما لا يستحق القبول، وأن يمن علينا بفضله وهو أكرم الأكرمين سبحانه وتعالى، وإنما كرم الكرماء في الدنيا أثر من كرمه عز وجل، ولولا أنه الكريم لما وجد كرم في الدنيا، الكرم المخلوق في قلوب العباد إنما هو أثر من آثار اتصاف الرب سبحانه وتعالى بالكرم الذي هو صفته عز وجل، فالكريم هو الله سبحانه وتعالى؛ لذا نرجو الله عز وجل أن يمن علينا بفضله، وأن يتكرم علينا بأن يقبلنا رغم أننا لا نستحق القبول، وأن ينصرنا رغم أننا لا نستحق النصر.