[الأموال العامة وعظم خطرها]
وروى الإمام أحمد عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني، وهذا إذن من النبي صلى الله عليه وسلم لعماله، وهو حد الكفاية بالنسبة لهم، فمن كان ليس له منزل فله أن يتخذ منزلاً، وهذا لا يعني أنه يأخذ من تلقاء نفسه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعطيهم، أو يجعل من يعطيهم، وذلك بأن يخبره من يعمل الأعمال من جمع الأموال أو ولاية الولايات بأنه ليس له منزل أو ليس له زوجة أو ليس له دابة أو ليس له خادم فيأذن له بأخذ ما يحتاج إليه، فإن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال وخائن للأمانة، وهذا دليل على أن قضية الغلول واسعة، وليست فقط في الغنيمة عندما يغل الإنسان ويسرق من الغنيمة قبل قسمتها، بل يدخل في ذلك كل من ولي ولاية وكان على مال من أموال المسلمين العامة، ووالله إن هذا لبلاء شديد، فكل من ولي على المسلمين من أموالهم شيئاً يمكن أن يتصور فيه الغلول والخيانة بأن يضع الأشياء في غير مواضعها، نسأل الله العافية، ونعوذ بالله من الغلول والخيانة.
وأموال المسلمين العامة هي أكثر الأموال استهانة بها عند الناس، فالناس يستهينون بالأموال العامة، ويقولون: إن مال الحكومة حلال، والواقع أن الحكومة ليس لها مال، بل هذه أموال المسلمين العامة، وهي ملك للمسلمين عموماً، وهي أشد خطراً من الأموال الخاصة، ولذلك تجد التشديد في الأموال العامة، وقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من رجل شراك نعل جاء به بعد أن انصرف الجيش وقال: (تأتي به يوم القيامة) إذ بعد أن انصرف الجيش لا يقدر أن يوصل لكل واحد منهم نصيبه من هذا الشيء اليسير.
فأموال المسلمين العامة أغلظ من الأموال الخاصة، فالشخص الواحد قد ترجع له حقه إذا تبت إلى الله، أما الأموال العامة فهي -في الحقيقة- مملوكة لكل المسلمين، ولكل مسلم حق ونصيب فيها، فكونه يهمل في شيء منها فيدمره ويفسده على المسلمين، أو يستعمله استعمالاً يؤدي به إلى فساده، أو يأخذه بغير حق، أو يحتال بأي وسيلة من الوسائل ليأخذ ما ليس له؛ كل ذلك أمره شديد، ونسأل الله العفو والعافية، ومن ذلك الرشوة، وسيأتي ما يدل على أنها من الغلول، فكل مال يدفع لموظف عام من أجل أن يخون الأمانة أو يؤديها فهو خيانة، إذ واجب عليه أن يؤديها دون أن يأخذ مالاً من المنتفعين بها من المسلمين؛ لأنه يأخذ أجرته من بيت المال، فكيف يأخذ من الناس شيئاً؟! فإذا كانوا يعطونه لكي يؤدي الحق فهو ظالم، وإذا كانوا يعطونه لكي يخون الحق ولكي يخون الأمانة فهذا أشد والعياذ بالله.
وروى أبو داود بسند آخر عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً.
قال أبو بكر -أحد الرواة-: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق).
قال ابن كثير قال شيخنا الحافظ المزي رحمه الله: رواه جعفر بن محمد الفريابي عن موسى بن مروان فقال: عن عبد الرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير، وهو أشبه بالصواب، وهو حديث صحيح بما قبله.
وهناك حديث آخر رواه ابن جرير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء فينادي يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء فيقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعاً من أدم ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك) لم يروه -أي: عن ابن عباس - أحد من أهل الكتب الستة.
وهو صحيح، ورووا مثله من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وهذا دليل على أن من غل شيئاً، أو سرق من أموال المسلمين العامة، أو أخذ ما ليس له منها، أو خان في الأمانة، فإنه يأتي يوم القيامة وعلى رقبته هذا الشيء لا يفارقه، وهو حمل ثقيل لا يستطيع التخلص منه، ويستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يقبل النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له ويقول: (لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك)، فيظل ملازماً له إلى أن يهوي به في النار، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله العافية.