للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب اختلاف الموازين وانطماس الفطر]

والعجب أن الموازين تختلف اختلافاً هائلاً في أعين الناس حتى إنهم يرون الإجرام إصلاحاً، ويرون الظلم عدلاً، ويرون العدل ظلماً وطغياناً وإرهاباً وتطرفاً وغير ذلك مما تختلط به موازين البشر؛ وهذا لإعراضهم عن شرع الله، وعدم النظر في آياته، وعدم وزنهم الأمور بميزان الشرع الذي أنزله الله، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس:٧٦].

فالقوم يتعاطون السحر، والسحرة عندهم مقربون مقدمون، ولذلك وجد فرعون السبيل -فيما يظن- إلى معارضة ما جاء به موسى بأن يأتي بسحر مثله، ووعد السحرة بالأجرة، بل كان يكرههم على تعلم السحر، كما في قوله عز وجل عن السحرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:٧٣]، ولا شك أن هذا الأمر منهم -وهو اتهام موسى عليه السلام بأن ما جاء به من الحق سحر مبين- يدل على انقلاب فطرتهم، فهم يعلمون أن السحر أمر مذموم، ومع ذلك يستعملونه ويكرهون الناس عليه.

وهم يتهمون موسى بأنه ساحر، وأن ما جاء به سحر؛ مع ما في قلوبهم من أن السحر أمر مذموم وقبيح، كما قالوا عنه: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:٢٤] فيتهمونه بالكذب وهم أكذب الناس، ولم يعرف أكذب من فرعون فقد ادعى أنه الرب الإله، بل قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] ومع أن الكذب في قلوب البشر قبيح إلا أن أكثرهم يستعمله، فتجد عجباً في نفوس البشر يعرفون الحق ويعرضون عنه إعراضاً تاماً، ويعرفون الباطل ويستعملونه بكل طاقة لهم، وهذا دليل على أنهم ما انتفعوا بما بقي في فطرتهم؛ لانطماس نور البصيرة عندهم، حتى استعملوا الأدواء القاتلة، والأمراض المهلكة، وخاضوا بالباطل وهم يعلمون أنه باطل، قال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} [يونس:٧٦ - ٧٧]، أي: أتقولون للحق لما جاءكم: سحر؟! {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس:٧٧].