إنَّ مرض الحزن هذا مرض مدمر للإنسان وهو من الشيطان، {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}[المجادلة:١٠]، فالنجوى شقاء للإنسان، فمن علامات الشقاء للإنسان أنه دائماً يقول: إن المصيبة التي حصلت لي آلمتني، ولماذا حصل كذا؟ وهل كان يحصل غير كذا؟ فيمكث في تخيل هذه الأفكار من أجل أن يتألم ويشقى، والشيطان يوسوس له، لكن لو أن هذا الإنسان استحضر كتابة المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلن يحصل له ذلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:(ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)، إذاً: فقد حصل الأمر وقدَّر الله وما شاء فعل، وهذا يريح الإنسان راحة عظيمة، قال:((وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)) أي: بما أعطاكم من الدنيا، ولا من الدين حتى لا تغترون، والفرح ليس معناه السرور؛ لأن السرور يكون بنعمة الله عز وجل:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:١١]، لكن المقصود بالفرح هنا: الفرح المذموم: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[غافر:٧٥]، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ}[القصص:٧٦] أي: لا تفرح فرح الغرور، إذ ننسب الفضل إلى النفس، وقد كنا عندما كتبت هذه المقادير عدماً، وكل شيء كان عدماً عدا ما خلق الله عز وجل من القلم والكتاب، إذاً: فينبغي للإنسان أن لا ينسب الفضل إلى نفسه، ولا يقولن: هذا لي، وهذا بجهدي وعملي، وإلا كان مثل قارون في هذه الطريقة، فهو الذي قال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:٧٨]؛ لأن الكبر قد أعماه والعياذ بالله، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا}[القصص:٧٨]، والعياذ بالله من ذلك، فلا يكونن كمن وصفه الله عز وجل بقوله:{هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}[فصلت:٥٠]، فيظن أنه لابد أن يأخذ شيئاً في الآخرة؛ لأنه أخذ في الدنيا، فإذا استحضر الإنسان ذلك لم يغتر، فإن الغرور والكبر من صفات إبليس صاحب هذا الطريق، فهو الذي قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}[الأعراف:١٢]، وهذا هو نسبة الفضل إلى النفس، فالإنسان المؤمن لا ينسب الفضل إلى نفسه في الدين أو الدنيا، في المال أو الملك؛ لأن الملك ملك الله سبحانه وتعالى، والمال مال الله، قال تعالى:{آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور:٣٣]، وقال:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد:٧]، إذاً: فعندما يستحضر الإنسان ذلك فلا يقول: إن هذا حقي، فإنه سيذهب ويكون مالكه قد أخذه، ولا يقول: أنا الذي عملته، لكن يقول: هذا من فضل الله علي؛ ولذلك لما حصلت لـ أم سليم واقعة موت ابنها رضي الله عنها استحضرت هذا المعنى، وقالت لـ أبي طلحة: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت، فأرادوا أخذ عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فابنك هذا كان عارية عندنا، أي: أن الله أعطاه لنا ثم أخذه، فالملك ملكه سبحانه وتعالى، إذاً: ينبغي للمرء أن لا يحزن ولا يغتر بما عنده، فإياك أن تقول: هذا لي، أو هذا ملكي، فإن هذا الشيء لم يكن لك، ولابد أن تستحضر أنك أنت والمصيبة والنعمة والخير والشر كنتم لحظة كتابة المقادير عدماً، فإن ذلك يزيل الفرح والغرور، قال تعالى:{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد:٢٣]؛ لأن الاختيال والفخر أمراض إبليسية مدمرة للإنسان، فلو أن الإنسان استحضر ذلك القدر السابق لما حصل له اختيال على الخلق، وبماذا تفتخر عليهم وليس لك من نفسك شيء؟ وكذا العلم الديني والعمل الديني والطاعات كلها هبة من الله كتبت لك قبل أن تولد وتوجد، فإياك أن تقول: أنا عالم، وإياك أن تقول: أنا مجاهد، وإياك أن تقول: أنا داعٍ إلى الله، وإياك أن تقول: أنا زاهد، أنا مصلٍ وصائم بمعنى الافتخار، فنحن نعلم أننا بلا شك نعبد الله عز وجل، فإياه نعبد وبه نستعين، لكن لا تنسب الفضل إلى نفسك، فكلنا مفتقر إلى الله عز وجل، ولذا قال الذي كفر عندما دخل جنته:{قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}[الكهف:٣٥ - ٣٨]، فالإنسان لابد له أن يستحضر فقره إذا تذكر هذا الأزل البعيد حين لم يكن شيئاً مذكوراً، كما يقول ابن القيم رحمه الله: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بعلامة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، أي: أعمال المؤمنين ولذلك يقول المؤمنون: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا وهذا توفيق من الله عز وجل، فالله هو الذي منَّ عليهم بذلك، وما الذي يفتح للقلب هذا الباب؟ إنه رؤية كتابة المقادير في ذلك العهد البعيد، وما كان من مقادير قبل وجودك حتى تستيقن أنَّ الله هو الذي من عليك، ليس بعلمك، ولا بعملك، ولا التخطيط وحسن العلم والعمل، وإنما هو توفيق من الله عز وجل، فهو الذي أراده لك سبحانه وتعالى، ومن به عليك؛ لذلك فإن من الأمراض: الاختيال والفخر، وهذان مما يخاف منهما على الصالحين في أمر العلم والعمل، والدعوة والجهاد، فإن أول من تسعر بهم النار الذين رغبوا في أن يقال عنهم ذلك لينسب لهم، فالذي جاهد ليقال: جريء، والذي تعلم وقرأ القرآن ليقال: قارئ وعالم، والذي أنفق ليقال: جواد فهؤلاء أول من تسعر بهم النار؛ لأنه يريد أن ينسب له ذلك، فالإيمان بأن كل ذلك قد كتب في كتاب قبل أن يبرأ الله الخليقة يزيل عن الإنسان الفخر والاختيال على الخلق، وكذلك يزيل عنه البخل؛ لأنه يظن أن هذا المال له، فيخاف أن ينقص لو أنفق، فإذا استحضر العبد أنها ملك لله عز وجل، وأن الله هو الذي كتبها ولم تكن له، لمْ يبخل حين يأمره الله بالنفقة، ولم يخف على المال من النقص؛ لأنه يعلم أنه راحل عنه قطعاً، وأن الرزق مقدر؛ لذلك يقول تعالى:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}[النساء:٣٧]، إذاً: الإيمان بكتابة المقادير يزيل عن الإنسان هذه الأمراض الخمسة: الحزن، والفرح الذي هو الغرور والكبر والإعجاب بالنفس، والاختيال، والفخر، والبخل، فهذه أمراض تشقي الإنسان وتشقي من حوله، وتخلق مشاكل لا حصر لها بين الناس، فالإنسان عندما يؤمن بالقدر وبكتابة المقادير تزول عنه هذه الأمراض، والنبي عليه الصلاة والسلام بين كتابة المقادير والإنسان جنين في بطن أمه، فقال عليه الصلاة والسلام:(يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب: أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد، فو الذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ففي هذا الحديث ثمار مهمة عظيمة الأهمية في مقام كتابة المقادير من هذا الحديث من كتب العمل والأجل والرزق والشقاء أو السعادة، فإذا علمت أن أجلك مكتوب فلا تخف الموت حين يأمرك الله عز وجل بالإقدام، ولا يكن حب الحياة معلقاً بقلبك إلى هذا الحد، ولا تحرص عليها لدرجة أن تبيع دينك من أجل عرض من الدنيا، وإذا كان الرزق مقدراً لك قبل أن تولد فلا تخف على لقمة العيش ولا تقل: أريد أن آكل فاتركوني وشأني؛ خوفاً من المشاكل، فالمشاكل هي مقاومة الشر والفساد، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أن المرء موقن أن الرزق الذي سيأكله مكتوب له من قبل أن يولد، وأن أولاده كذلك مكتوب لهم الرزق الذي سيأكلوه، لما داهن في دين الله ولما خاف ورجا الناس، ولما باع دينه من أجل مصلحة دنيوية، أو باع طاعة الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا).