[خطر مرض اليأس والاستكانة]
هناك جملة تصورات يائسة مثل: اسكتي أيتها الشعوب! فقد حان وقت المهدي، وسوف يظهر خلال سنوات معدودة، ومن قبل كانوا يقولون: قبل أربع سنين، فلم تنفع، وبقيت كذبة، والناس كلهم نسوا مثل هذا الكلام، ثم قالوا بأن المسيح الدجال سيظهر في ربيع سنة (١٩٩٨م) ثم قالوا: معركة هرمجدون ستحصل خلال عقدين أو ثلاثة، لكي تستكين الشعوب، وتشعر بأن النصر سيأتيهم من فوق، من دون عمل أي شيء.
إذاً: فليس هناك عمل يطلب من الأمة، لا، بل لا بد أن نعمل كما أمر ربنا بقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:١٢١] يعني: سنستمر على طريقتنا وعلى تمكننا، ولو خالفنا الطريقة، وابتدعنا في دين الله عز وجل، أو عملنا المعاصي، أو وقعنا فيما هو أفظع من ذلك من الشرك، أو الاستكانة لما يريده العدو.
والاستكانة معناها: الخضوع لما يريده العدو ويطلبه من العقائد الفاسدة، وترك العبادة الواجبة، والاتصاف بالأخلاق الذمية المفسدة، وترك العمل من أجل دين الله عز وجل، وإذا وصل الناس إلى هذا الحد من اعتقاد الفساد، والباطل -والعياذ بالله- مثل موالاة الكفار أو صداقتهم، فلن أكون متعجباً إذا وجدت بعد شهور قليلة من يذمون أعداء الله من اليهود والنصارى أعظم الذم ويضعون أيديهم في أيديهم، ويقبلونهم معلنين الصداقة والوئام والمحبة والسلام، وقد فعلوا.
إن الذين قتلوا من المسلمين في سنة (١٩٦٧م) هل يبلغون خمسة آلاف، أو عشرة آلاف؟ قتل مائة ألف جندي مصري في تلك السنة، وقتل أضعاف كثيرة منهم بعد ذلك، ونسي الناس ذلك، وقالوا: السلام لا بد منه، وانتهت الحروب، وليس هذا ببعيد من نفس الأشخاص الذين يتكلمون بهذه الكلمات.
ولذلك نقول: الاستكانة هي أن نقبل بالعقائد الفاسدة، وأن نقول للناس: العداوة زالت، حتى وجد من المنتسبين إلى الإسلام وإلى القضية يقولون: إن الخلاف بيننا وبينهم ليس خلافاً دينياً، وليس صراعاً دينياً! هذه هي الاستكانة الحقيقة، وأنت لو قتلت نفسك لأجل مثل هذه العقائد، فلن تكون على طريقة أهل الإسلام التي هدفها إعلاء كلمة الله في الأرض، وإظهار هذا الدين في كل بقعة من بقاع الأرض، ومن أهمها -بلا شك- البقاع المشرفة المقدسة التي ظهر عليها الإسلام، وعظمها وبارك الله عز وجل فيها وحولها.
المقصود: أن من أخطر الأمراض التي تصيب الأمم المهزومة والمغلوبة: مرض اليأس الذي يدفع إلى تصرفات جاهلة، كما يقول البعض: لابد أن أعمل أي شيء، حتى لو كان هذا الشيء في غير الطريق، وهو يظن أنه حينها يعمل شيئاً، أو ينتظر الوهم، ويحدد لنفسه تواريخ، ويقول: سيأتي النصر من السماء من غير أسباب! لا، لا بد أن نعمل، ونتحسس أسباب الخير، فلا بد من عمل لكن على الطريق الصحيح؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:١٢١] أي: إنا عاملون على طريقتنا أو على تمكننا، وكلا التفسيرين متلازمين.
إذاً: فلا بد من الأمرين.
وحقيقة التوكل الذي أدى إلى الاستهانة بقوة العدو، وعدم الاهتمام بها، واعتقاد أن هذه القوة تمكين من الله سبحانه وتعالى لهم، وامتحان لنا، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:٢٠] وقال سبحانه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:٨٨ - ٨٩]، إذاً: فماذا نصنع؟ ندعوا الله، فموسى عليه السلام لم يستكثر أن فرعون معه ما معه، فقال الله على لسانه: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)) لأن هناك قلوباً خفيفة، يراد أن يركم بعضها فوق بعض، ولم يقع ذلك إلا بوجود المضلين، كما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)) [الأنعام:١١٢ - ١١٣] أي: لتميل إلى زخرف هذا القول الباطل، {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:١١٣].
استحضر أن الله هو الذي يدبر الأمر وليس تخطيط الأعداء، استحضر أن الله هو العزيز الذي لا يضاد، وأنه هو الذي يملي لهم لمتانة كيده، كما قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣]، وقال: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:٤٤]، فالله يمهلهم ولا يهملهم عز وجل، كما في الحديث: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) هكذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:١٠٢]، ويجب أن نستحضر أن هناك حكمة من الله عز وجل في أن تميل إلى الباطل قلوب غير المؤمنين من الكفرة والمنافقين الذين لا يريدون الآخرة؛ لترضى بهذا الباطل، ليقترفوا ويفعلوا الأفعال الإجرامية، وإذا حان الوقت، فهذا فعل الله عز وجل وله ما أراد من أفعال سبحانه.