للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الابتلاء رفعة للمؤمنين وسفول وانحطاط للعاصين]

لو تأملنا قدر الألم الذي تألمته عائشة رضي الله عنها، وتألمه أبو بكر أبوها رضي الله تعالى عنه، وأمها، وقدر الألم الذي تألمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يسمع الأذى يصل إليه في أهل بيته، ويتهم في عرضه عليه الصلاة والسلام، ويتكلم حتى أناس من خلصاء أصحابه ممن هاجروا في سبيل الله، ممن ينافح عن دين الله، ممن يدعو لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأييد من الله، إذا بهم يقعون في عرضه عليه الصلاة والسلام.

ثم تأمل عاقبة الأمر لتعلم كيف ارتفعت عائشة رضي الله عنها إلى منزلة عظيمة لم تكن لتبلغها إلا بما وقع لها، فصار يقال عنها كلما ذكرت: الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سموات، وصار ما كان بالمجتمع المسلم طهارة لهم ورحمة من الله سبحانه وتعالى.

وهكذا في كل ما يصيب المسلمين من بلاء يجعله الله عز وجل كفارة وطهوراً، وتعديلاً لمسارهم حتى يدركوا ما ينبغي أن يعملوه، وينتبهوا لعيوب أنفسهم، ويتطهروا منها، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، يقدر الله سبحانه وتعالى من أنواع المحن ما تتطهر به نفوس المؤمنين، ما تستبصر به قلوبهم، وتستنير به صدورهم في طريقهم إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يأتي بعد ذلك وعد الله الحق الذي لا يخلف في نصرة المؤمنين، وفي هزيمة الكفرة والمنافقين، وفي عز من أطاع الله وفي ذل من عصاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).

وقال الحسن رحمه الله تعالى: (هم والله! وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لفي رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه)، وأنت ترى هذا والله ظاهراً جلياً فيمن يعصي الله عز وجل، ومن يشاقق أمره سبحانه وتعالى، ويشاقق رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:١١٥]، يوليه الله سبحانه وتعالى أنواع الذل والهوان والعذاب المهين، ثم يجعل له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، وتأمل في عاقبة إبليس حين تكبر فصغر وأهبط عكس قصده؛ لأنه أبى أن يطيع الله، قال تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٣٤] فجعل الله عاقبته إلى صغار، وهوان، وذل، وانحطاط وإهباط من المنازل العالية التي كان فيها، فاعتبر بهذا في كل ما يقع، وأيقن بأن وعد الله حق كما أخبر سبحانه وتعالى مبشراً عباده المؤمنين بعد أن أمرهم بقتال أعدائهم ووعدهم النصر على ذلك، فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:٢٩ - ٣٣].

فوعده حق سبحانه وتعالى لا يخلف، ولابد أن نوقن بذلك؛ لأن هذا اليقين هو الذي يدفع أهل الإيمان إلى الصبر والاحتساب، وإن رأوا موازين الدنيا كلها في الكفة الأخرى فإنهم يصبرون ويثبتون ليقينهم بأن وعد الله حق، وإنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كما قال ربنا سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤].