للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سورة آل عمران معلم أساسي في تاريخ الأمة]

قال الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:١٣٧ - ١٤٨].

سورة آل عمران معلم أساسي في تاريخ أمة الإسلام، ودرس للمؤمنين عبر العصور وفي كل الأزمنة والأمكنة، وبيان لسنة الله سبحانه وتعالى، وقراءة إسلامية للتاريخ، يحتاج إليها المؤمنون في كل زمن وفي كل حال من أحوالهم.

فالأحوال دائماً في تغير وتبدل، والله يداول أيام العسر واليسر، والكثرة والنصرة بين الناس، فهو سبحانه وتعالى قد جعل للأمم سنناً يسير عليها البشر في الأزمنة المختلفة، وإن كانت أعمار الأمم لا تقاس بالسنوات وإنما تقاس بعشراتها أو مئاتها، وتقاس بالقرون، وإن أمة لم يتجاوز سلطانها مائة أو مائتين من السنين ثم تتعرض للاضمحلال والزوال لهي أمة مهينة، ولننظر في تاريخ أمة الإسلام لننظر ولنعلم كيف استقر بفضل الله عز وجل سلطانها قروناً متعددة، وبما انتصرت؟ وفي كم انتصرت من الزمن؟ ولماذا ضعف سلطانها وتسلط عليها أعداؤها؟ وفي كم من الزمن وقع ذلك أيضاً؟ حتى لا يغرنا تقلب الذين كفروا في البلاد، وحتى لا تغرنا القوة الزائفة الزائلة التي يقدرها الله سبحانه وتعالى لأهل الكفر في أزمنة مختلفة ليبتلي بها عباده، بذلك ويختبر ما عندهم، وينظر ماذا يعملون، ولو تأمل متأمل في الأرض والسموات لأيقن وجزم وقطع لمجرد التأمل أن البشر وجودهم وقوتهم وملكهم وما بأيديهم لا يساوي شيئاً، فتأمل وجود البشر بالنسبة إلى الأزل وإلى الأمد، بل بالنسبة إلى ما مضى فقط من حياة البشر على ظهر الأرض وما بقي منها، وكم يعيش الإنسان بالنسبة إلى هذا الدهر الطويل، لتعرف قدر الإنسان في الزمان بأنه كالهباء فعلاً، أو كاللحظة العابرة، أو كالخاطر الذي يخطر على البال أو أقل من ذلك، فوجودنا أصغر بكثير مما يشعر به الكثيرون منا من أن حياتهم طويلة، وتأمل حجمنا في المكان، وانظر إلى مصير كل منا في الأرض، كم يشغل منها بالنسبة إلى مساحتها الكلية؟ وكم تشغل الأرض من هذا الكون الواسع الفسيح؟ وكم تشغل من المجموعة الشمسية مثلاً؟ وكم تشغل من المجرة؟ وكم تشغل المجرة من آلاف الملايين من المجرات مما لا طاقة للبشر ولا علم ولا سمع ولا بصر يصل إليه فضلاً عن أن يحيط به؟ وكل هذا في السماء الدنيا، وكلما ارتفعنا اتسع الأمر لتعلم صغر الإنسان.

ثم تأمل ما بأيدي الناس من القوة في دنياهم التي يعيشون بها على ظهر هذه الأرض، ثم قارن بينها وبين القوة التي أودعها الله عز وحل في شيء واحد فقط فضلاً عن أشياء متعددة، في البحر مثلاً، كم من الطاقة في هذه البحار التي لو أمرها الله عز وجل أن تغرق الناس لأغرقتهم؟ كم في الرياح من طاقة وقوة هائلة تدمر ما بأيدي البشر في لحظات معدودة؟ ففي أيام معدودة وليال يدمر الله عز وجل أمماً بأسرها، ويقع ذلك في كل زمان، وليس هذا فقط في زمن عاد، بل يتكرر أمام أعين البشر في زماننا في كل عام مرة أو مرتين، فتسمع عن إعصار، وتسمع عن غرق، وتسمع عن حرب، وتسمع عن دمار، وتسمع عن زلازل، فهناك قوة مودعة في الأرض، هذه الأرض التي لو أمرها الله أن تبتلع الكفرة والظلمة والمنافقين لابتلعتهم في لحظة، ولضيقت عليهم، وانشقت بهم، ولو أمر الله عز وجل ما في السموات من المذنبات أن تحصد الأرض وتصيب ما شاء الله عز وجل أن تصيب لكان شيئاً واحداً منها مدمراً لقارات بأكملها، فسبحان الله! أبعد هذا يغتر المغتر ويظن أن الأمر بأيدي الناس؟! ما يملك البشر وما بأيديهم إنما هو أصغر من الهباء بالنسبة إلى ما أودع الله عز وجل في بعض مخلوقاته من القوة، فالقوة لله جميعاً، لذا تأكد وأيقن أن الأمور تجري بمقدار من عند الله سبحانه وتعالى، وهي أثر من آثار قدره الماضي سبحانه، وأثر من آثار السنة التي قد مضت فيمن قبلنا، وأثر من آثار قوة الله عز وجل وقدرته على خلقه حتى لا تغرنا البدايات، وحتى لا نيئس من النهايات، وحتى لا نزن الأمور بموازين ما بأيدي الناس، حتى كأن القوة الوحيدة هي ما بأيديهم، حتى كأن التخطيط والتدبير إنما هو الذي يصنعونه، والأمر ليس كذلك، فهناك تدبير آخر، وهناك سنن يقدرها الله سبحانه وتعالى، ويجعلها سبحانه وتعالى هداية لأهل الإيمان، وموعظة لهم، ويبين بها لسائر الناس ما يفعله عز وجل بأوليائه وأعدائه؛ ليظهر لكل أحد أن الأمور من عنده سبحانه وتعالى نازلة، فالله عز وجل يقلب الأمور، ويداول الأيام، ويغير الأحوال والموازين، فإذا لحظنا ذلك بقلوبنا، ووعته أفئدتنا، كان ذلك سبباً لسلوكيات وأفعال معينة من طاعة الله سبحانه وتعالى، ومن الصبر والثبات، والتخلص من أمراض عديدة تصيب الأمم في فترات الضعف والمحن، كالوهن، والحزن، والاستكانة للعدو ولباطلة، والمتابعة له على الباطل، فكل ذلك بسب عدم ملاحظة سنن الله سبحانه وتعالى أن الأمور من عنده عز وجل.