[الدعاء من أقوى الأسلحة]
قال تعالى: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) فالدعاء من أمضى وأقوى الأسلحة، وكذلك التضرع إلى الله بأسمائه وصفاته وخاصة الربوبية منها، والاعتراف بالذنوب؛ فإنها عمل صالح؛ لأنهم يحاسبون أنفسهم، ولأنهم ليسوا كالذين يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، فكم من المحن تنزل، ولكن الكثير من الناس لا يعي ولا يتوب ولا يتذكر إلا من رحم الله.
وليسوا كالذين دائماً ينظرون إلى جانب الكمال في أنفسهم وما هو بكمال، بل هي نقائص وأمراض، ومع ذلك يرون أنفسهم أكمل الناس وأفضل الناس، وأعلمهم بالدين والدنيا ونعوذ بالله من ذلك، فهذا أمر في غاية الخطورة.
أفلا نعي الدروس؟! ألا نستفيد من المحن؟! ألا نستفيد من البلايا؟! ألا نراقب الله ونراجع أنفسنا؟! {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:١٢٦]، وهذا هو حال المنافقين نعوذ بالله من النفاق، أما أهل الإيمان فإنهم راجعوا أنفسهم، والله لم يقدر تخطيط الأعداء ومكرهم إلا لنرجع إليه، ولذلك بادروا وأقروا على أنفسهم بالإسراف، وإياك أن تظن بنفسك أداء الحق وأنت لم تؤد حتى عشره، وهذا موطن خطير جداً، عندما يتأمل كل واحد منا في نفسه ولا يراها مقصرة، ويجلس وحيداً بعيداً عن الناس، ثم يسأل نفسه: هل تؤدي ما عليك فيما بينك وبين الله؟ وفيما بينك وبين الناس؟ وفي أداء الواجبات؟ وفي ترك الذنوب؟ وفيما أوجب الله عليك من نصرة الدين؟ فإذا حدثتك نفسك وقالت لك: أنا أديت ما علي، والتقصير إنما هو من غيري، والناس هم السبب، والبلايا والمحن جاءت من غيري، فتأكد أننا لن نتغير، وأن الواقع يحتاج منا إلى عمل طويل الأمد، في داخل النفوس قبل أن يكون في خارجها، ولابد أن تكون صادقاً في قولك: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا))، ولابد أن تعترف فعلاً بينك وبين الله عز وجل، ليس على سبيل التواضع وهضم النفس وأنك تراها مستحقة لغير ذلك، ولكنك تعترف من باب الاقتداء بالمؤمنين الذين قالوا ذلك، أو الترديد باللسان لهذه الأدعية، ولابد أن تكون صادقاً حين تقول: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا))، ولا بد أن تستشعر أن الأمة أُتيت من قِبلك، ومن ناحيتك، ومن الثغرة التي أنت عليها، وأنت على ثغرة بلا شك، فكل واحد منا على ثغرة من ثغرات العمل من أجل الإسلام، وإذا وجدت أن نفسك تقول لك: أنا أفضل وغيري هو المقصر، فاعلم أننا ذاهبون إلى مزيد من البلايا والمحن ونسأل الله العافية، وإنما كان قول المؤمنين كما قال الله: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) توسل إلى الله بالربوبية، وتوسل إلى الله بالاعتراف بالذنب، وقد ورد في الحديث: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
فالذنوب هي التي هزمتنا، وهذا أمر حقيقي واقع، وكل منا له ذنوب وتقصير وإسراف على نفسه، وأكثر الناس يجود بعمره ووقته ويسرف على نفسه، ويسرف على شهواته ورغباته، فيجود بالزمان وبالوقت ليضيعه في معصية الله، ولو كان في المباحات لكان بخساً على الإنسان، فكيف بمن ينفق عمره وساعاته في معصية الله عز وجل؟ فهذا هو حقيقة الإسراف، وهذا هو التقصير الحقيقي.
قوله تعالى: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) المقصود بتثبيت الأقدام: حسي، ومعنوي.
فالحسي في معركة القتال، والمعنوي على الصراط المستقيم، حتى لا تزل القدم في أهواء مضلة، وحتى لا ينحرف الإنسان إلى الهاوية، إما إلى شبهات مضلة وإما إلى شهوات مغوية، والمسلم محتاج إلى التثبيتين، فكم من إنسان عنده معرفة نظرية وعندما تأتي لحظات المواجهة والشدة لا يثبت، بل ينهار تماماً رغم أنه كان على علم، فليس العلم هو العلم الذي على اللسان، إنما العلم النافع هو العلم الذي في القلب، وهذا يظهر في فترات الشدائد والمحن، وفي مثل هذه اللحظات من الهزيمة.
((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) يعلمون أن الله هو الذي يثبت القلوب والأقدام، وأنه سبحانه وتعالى إن لم يثبت أقدامهم لم يثبتوا، والإنسان يلحظ في قوله تعالى: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) التزام بالشرع وإيمان به وانقياد له، وفي قوله: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) إيمان بالقدر، وتحقيق لقوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] وأما قوله: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) دليل على معرفة العبد المؤمن بأن الله هو الذي يثبت قلبه ويثبت قدمه على الصراط المستقيم، حتى لا ينحرف ولا يزل ولا يضل ولا يكون غاوياً نعوذ بالله من ذلك.
ففيه إيمان بالقدر ولجوء إلى الله، وهذا مقام التوحيد كما ذكر ابن القيم رحمه الله، مقام الصبر، ومقام اللجوء إلى الله والتضرع إليه، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتوسل إليه بأعمالنا الصالحة، من الاعتراف بالذنوب وطلب قضاء أعظم الحاجات، وهي الثبات على الصراط المستقيم.
قوله تعالى: ((وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) وهذه هي التي يرجوها أهل الإيمان، وليس هذا لتحقيق نفع دنيوي، وإنما لإبطال الكفر، ولذا وصفوا قومهم بالكافرين في هذا المقام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة -في غزوة أحد- يحاربون قريشاً، وقريش هي التي تحاربهم وهم من نفس القبيلة، ومن نفس الوطن، ومن نفس القومية، وعلى الرغم من ذلك وصفوهم بالقوم الكافرين؛ لأنهم إنما يريدون نصرة الدين، فهم لا يقاتلون لأجل منصب، ولا يقاتلون لأجل قومية أو قبلية أو وطنية أو غير ذلك، وإنما يقاتلون لأجل الدين، فكيف بمن صار لا يقاتل لا حمية ولا شجاعة ولا نصرة للدين ولا لقومية ولا لوطنية؟ أصبحت أمور عجيبة في زمننا هذا نسأل الله العافية، وصار الناس يقاتلون لأجل ألا تباع أوطانهم، وألا تهدم قومياتهم، وصار من ينادي الآن بالقومية أقرب حالاً نسأل الله العافية، فأي بلاء هذا الذي نزل بنا؟ مهانة عجيبة، لكن أهل الإيمان إنما يقاتلون لكي يبطل الكفر.
فهم وصفوا قومهم في هذا المقام بالقوم الكافرين، لكي يؤكدوا البراءة منهم وأنهم يريدون إبطال كفرهم، وإبطال شركهم، وألا يظهر كفرهم على وجه الأرض، والنصر من عند الله عز وجل اعتقاد يقيني لأهل الإيمان.