دعا الله عز وجل خلقه إلى الإيمان فاستجابت طوائف من الناس، منهم من أجاب صادقاً ومنهم من أجاب كاذباً، واختلط الفريقان، وأظهر كل أحد الإسلام، وهذا الاختلاط إذا لم يتميز فسيحصل منه ضرر عظيم؛ وذلك بأن يتصدر أمور الدين وإمامة الخلق من يدعوهم إلى النار ممن يتكلم بألسنتنا وقلبه قلب شيطان، فيحصل من ذلك ضرر عظيم كما حصل من المنافقين في غزوة تبوك، وكانوا نسبة ضئيلة جداً في المجتمع المسلم، فالذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك قال كعب بن مالك: كانوا بضعاً وثمانين رجلاً، وكان الجيش قوامه نحو الثلاثين ألفاً.
وهذه النسبة الضئيلة قال الله عز وجل عنها:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}[التوبة:٤٧] أي: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا اضطراباً وخللاً وفساداً.
ومعنى (ولأوضعوا) أي: لأسرعوا بالإفساد فيما بينكم.
وقوله:(يبغونكم الفتنة) أي: يبغون أن تقعوا في الفتن، فتن الشهوات والشبهات، يفسدون العقائد والتصورات وكذلك الأعمال والسلوكيات.
((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)) أي: فيكم من لا يعرفهم؛ فيقبل كلامهم ويصدق حديثهم، فيقع فيما وقعوا فيه والعياذ بالله، أو وفيكم سماعون لهم ينقلون لهم الأخبار ويعرفونهم بأحوال المسلمين الباطنة، وكلا المعنيين صحيح، فالله عز وجل من أجل ذلك قدر أن يثبطهم كما قال:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}[التوبة:٤٦ - ٤٧]، فتصور أن جيشاً فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعشرة المبشرون، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، والذين ثبتوا في أحد، وكل هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الصادقين المخلصين يبلغون نحو الثلاثين ألفاً، والمنافقون أقل من مائة، ولو خرجوا فيهم بلا وزن ولا قيادة ولا إمامة ولا تبليغ للدين ولا تعليم للناس؛ لم يكن لهم شأن من ذلك، ومع ذلك كانوا يستطيعون أن يوقعوا الفساد، فتخيل وتصور هذا، وانظر إلى واقع المسلمين الحاصل اليوم، فبعد ثلاثة قرون من الزمان أو أكثر من ذلك ظهر الأمر جلياً، وتجد الآن الأمثلة متعددة في أجزاء متفرقة من العالم الإسلامي، تجد أثر ظهور النفاق وعدم التميز بسبب الجهل بسنن الله الشرعية والكونية، فتصدر من ليس ممن جعلهم الله عز وجل أئمة في الدين، فإن الله إنما يجعل الأئمة من الذين يهدون بأمره مع تحليهم بالصبر واليقين، كما قال الله:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة:٢٤]، والله لا ينال عهده الظالمين كما قال تعالى:{لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:١٢٤]، فلا يكون إماماً من كان موصوفاً بالظلم، وإنما يقع الفساد وتخرب الدنيا إذا صار الصم البكم رءوس الناس.
ولم يستفد المسلمون من محنهم، ومن فترات أزماتهم، وجهلوا سنة الله عز وجل في خلقه الشرعية والكونية، فالله سبحانه وتعالى يقدر المحن للمسلمين، وهو عز وجل يريد أن يظهر شيئاً من الغيب الذي علمه من قلوب الناس إيماناً ونفاقاً، فهو عز وجل يريد أن يظهره للناس؛ ليتعاملوا به بناء على ذلك، وليس هذا فقط في أمر المنافقين، بل في الكافرين أيضاً، كما قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال:٣٦].
تأمل هذا الأمر، وتأمل كل كلمة من هذه الكلمات، تجد أنها دليل على أن الأمر يقع بالتراخي وليس مباشرة كما قال سبحانه:(فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) أي: بعد حين سيتحسرون على ما صنعوا، حين تظهر النتائج العكسية لما خططوا ومكروا ودبروا من إضعاف للإسلام، وإبطال للحق، وإطفاء لنور الله عز وجل؛ فلا يحصل لهم إلا عكس مقصودهم.
قال الله:(فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) فلابد من مرور هذه الوقائع بهذا الترتيب، وبهذا التراخي؛ لأن (ثم) تفيد الترتيب مع التراخي، (ثم يغلبون)، ففي نهاية المطاف يغلب أهل الباطل.