للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إقامة إبراهيم الحجة على قومه في بطلان عبادتهم لغير الله]

قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:٧٦] يريد أن يقيم الحجة على قومه في بطلان عبادتهم لغير الله، وأنه لا يصح أن يعبد من يأتي أحياناً ويغيب أحياناً.

فقوله: ((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ)) أي: ستره الليل، ((رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)) إما على سبيل الاستفهام: أيصلح أن يكون هذا ربي؟ يريد أن يستثير فهمهم وعقولهم، أو على سبيل الإنكار، والأول أظهر، ثم يأتي الجواب بعد حين: ((فَلَمَّا أَفَلَ)) أي: غاب، ((قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ))، والعبودية أصلها المحبة.

والإنسان في قلبه فطرة أساسية دافعة قوية لمحبة إلهه الحق، فقد فطر على ذلك أشد من حاجته إلى النفس والطعام والشراب، فبدنه يحتاج إلى الهواء وإلى الماء وإلى الطعام، فجعل الله في نفسه شبقاً إلى هذه الأشياء، فهو يشتهي أن يأخذ النفس ولا يستغني عنه دقيقة واحدة، وربما يستغني عن الماء والغذاء أياماً، ولكنه لا يبقى بدونهما كذلك.

وأما القلب فشأنه شأن آخر، فإن الله فطره على أن يحب من لا يغيب عن محبته لحظة، وإذا غاب عن محبته فإنه يمرض ويموت، وربما تتعثر بعض القلوب حين يطول بقاؤها دون أن تحيا بماء الحياة المنزل من عند الله سبحانه وتعالى.

فالله يحيي الأرض بعد موتها، ويحيي القلوب بما ينزل من الوحي من عنده عز وجل، فقلب العبد يحتاج إلى أن يحب من لا يغيب عن حبه لحظة، وأما إذا غاب القلب عن حب الله، فإنه يأتيه من أنواع الأمراض وأنواع المتاعب وأنواع النكد والشقاء ما لا يستطيع معه أن يستمتع بحياة، ولولا سكر الشهوات وسكر المعاصي لما بقي الناس أصلاً بأبدانهم على ظهر الأرض، ولماتت قلوبهم، وقد شقوا شقاء عجيباً لا يدرون ما وجهه إذ أعرضوا عن الله عز وجل؛ لأنه لا يصلح أن تتوجه القلوب إلا إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا يغيب، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:٧]، بل هو مطلع على خلقه، سميع بصير قدير قوي في ملكه سبحانه وتعالى، لا يزول ملكه ولا ينقص، وهو سبحانه وتعالى حي باق لا يموت، قال عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥]، والآثار العقلية شاهدة بذلك فضلاً عن الآثار والأدلة السمعية المنزلة من عنده سبحانه وتعالى، فهي ترشد العقول إلى أقصد الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى ومحبته.

فقوله: ((لا أُحِبُّ الآفِلِينَ)) أي: أن العبد يحتاج إلى الحب، ولن ينال هذا الحب إلا بالتوجه إلى الله عز وجل، فإذا وجهت وجهة القلب لغير الله وأحب غير الله مرض ومات، وكان والعياذ بالله كما قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:١٢٢] فالكافر مثله في الظلمات ليس بخارج منها، وهو ميت لا يحيا، وإنما تحيا القلوب بمعرفة الله ومحبته سبحانه وتعالى.