[مصير المؤمنين والكافرين في الآخرة]
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: ذكر الله سبحانه وتعالى عقب ذلك مصير الكفار، فبدأ بذكر مصير المؤمنين، وما هم فيه من الحب الذي يحيط بهم من كل جانب، والذي يحصل لهم من الكائنات كلها، ومنهم ملائكة الله تعالى، ويكفيهم شرفاً أن الملأ الأعلى يذكرهم، وأشرف من ذلك أن الله يذكرهم في الملأ الأعلى، كما قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:١٥٢].
ثم ذكر سبحانه وتعالى في المقابل المقت والكراهية التي يحيط بالكفار من كل جانب، وهذا مقتضى عدله سبحانه وتعالى! فإياك أن تغتر فتختار طريق البغضاء والكراهية والمقت من أجل زخرف الدنيا، ومن أجل تقلب سريع في البلاد سرعان ما يزول، وإياك أن تغتر بأن تترك سبيل الحق لأجل أن أهله مبعدون مطاردون، أو أن أهله عندهم من أنواع البلايا والمحن ما عندهم، وإياك أن تختار سبل الباطل أو تختار واحداً منها؛ فإن ذلك عذاب قبل العذاب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:١٠]، فحين دعي الكافر إلى الإيمان فكفر مقته كل شيء، ومقتته نفسه، فصار يحيا في المقت والكراهية، والله إنه لمن أعظم العذاب، وذلك حين يعيش الإنسان في كون يكرهه فيه كل شيء، ومقت الله أكبر من ذلك كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الفريقين: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض)، فيعيش في المقت حتى من الأرض التي يمشي عليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مستريح ومستراح منه، أما المؤمن فيستريح من نصب الدنيا وتعبها، وأما الكافر أو الفاجر فيستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) فالشجر والبلاد والأرض تمقت الكافر والفاجر وتكرهه والعياذ بالله، ومقت الله أكبر، فنعوذ بالله من غضبه ومقته وعقابه.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:١٠]، أي: عذاب أشد من أن يعيش في مقت الله أبد الآبدين هذه بشارتهم يوم القيامة، وينادون بذلك: مقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم، لأنهم دعوا إلى الإيمان فكفروا: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:١٠]، فيريدون الرجوع إلى الدنيا، ويريدون فرصة أخرى لكنهم لا يجدون، فالآن في الدنيا ما زالت الفرصة بين أيديهم ولن تتكرر في غير الدنيا، قال عز وجل عنهم {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:١١] أي: كنا أمواتاً قبل خلقنا، {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:٢٨]، ((أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ))؛ فالموتة الأولى قبل الولادة حين كنا ماءاً وطيناً، والثانية بعد الولادة، ثم نحيا يوم القيامة: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:١١] وليس هناك من سبيل، لماذا؟ {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:١٢]، فليس كما كنتم تدعون أن الحكم لغيره، وأن الأمر لسواه، بل الحكم لله العلي الكبير سبحانه، الذي له كل معاني العلو: علو القدر وعلو الشأن، وأنه فوق العرش سبحانه وتعالى، فهو الكبير الذي أحاط بكل شيء، وهو أكبر من كل شيء.
فالحكم لله العلي الكبير حين دعوا إلى الإيمان فكفروا، ودعوا إلى التوحيد فأشركوا وردوا دعوة الرسل، وحينها كتب عليهم ذلك المقت وذلك الغضب وذلك العذاب، فيريدون الخروج من النار ومن الغم والكرب، وإنما صارت النار عذاباً لمقت الله عز وجل؛ وذلك مقتض لأنواع الآلام الأخرى المستلزم لها والعياذ بالله، فالألم الحسي إنما هو فرع عن الألم المعنوي؛ لأن الله إذا مقت عبداً مقته كل شيء، فالنار تتغيظ على الكفار من أجل أن الله مقتهم؛ لأنهم كفروا، فانظر إلى نعمة الله عز وجل عليك؛ لكيلا تغتر بزخرف الدنيا، وتنسى حقيقة هذا الدين.
هناك نعمة عظيمة أنعم الله بها عليك، وهي أنك تقول: لا إله إلا الله بسهولة ورفق، ومن فضله سبحانه وتعالى عليك أن جعلك موحداً لا تشرك به شيئاً {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:١٢ - ١٣] فدليل التوحيد ودليل أن الحكم لله أنه هو الذي يريكم آياته، وينزل لكم من السماء رزقاً، ومع ذلك فلا يتذكر إلا من أناب، فإذا وجدت قلبك بعيداً عن الاتعاظ فتب إلى الله وارجع إليه، فسوف يفتح لقلبك نوافذ من الخير تطلع منها على حقيقة الخير كله: من معرفة الله ومحبته، والتعبد له سبحانه وتعالى.
{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:١٤] أي: لا تظنوا أنهم سيرضون عن عبادتكم لله، وعن دعوتكم إليه، ولذا لا تجعلوا رضاء الناس عن دينكم هو الميزان، ولكن التزموا ولو كره الكافرون، وأخلصوا لله عز وحل ولو كره المجرمون، وتمسكوا بطاعة الله سبحانه وتعالى ولو كره أهل الدنيا؛ فإنه: (لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)، ولكن وطن نفسك على أنك لن تترك الحق ولو كرهه الناس جميعاً.
{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:١٤ - ١٥]، والروح هو: الوحي؛ لأنه حياة القلوب: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:١٥ - ١٦] وكان الملك قبل ذلك له عز وجل، ولكن الناس ينازعون فيه، فأتى اليوم الذي لا منازع لله فيه، وظهرت حقيقة الأمر، فكن أنت ممن يوقن بأن الملك لله في الدنيا والآخرة قبل أن يوقن الناس جميعاً يوم القيامة بأنه لله الواحد القهار.
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:١٧] سوف يعتدل الميزان، وترجع الحقوق إلى أهلها، ويرد الأمر إلى نصابه، {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:١٧] كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:١٧].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين وأصحاب الضلالة أجمعين.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك رهابين، لك مطواعين، إليك مخلصين أواهين منيبين، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت أقدامنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، والشيشان، وكشمير.
اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، ربنا انصرنا على القوم المفسدين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.