فالله عز وجل ذكر لنا أنهم أعلنوا كفرهم بقولهم:((إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ))، والأصل أن الذي هو في شك من قضية ما، يدعوه ذلك في تصور العقل السليم إلى أن يبحث، لا أن يعلن الرد والكفر مبدئياً، وإنما يقول: أرونا الأدلة.
فقبل أن يقدم الكفر لا بد من أن يقدم البحث والنظر؛ لأنه في شك وهو مرتاب، فليبحث ولينظر، أما أن يسعى في إسكات صوت الحق، أو أن يعلن أنه قد كفر بالحق لمجرد أنه في شك، فهذا هو العجب.
إن الكفر أنواع متعددة، والشك واحد منها، ولكنهم قدموا ذكر الكفر على ذكر شكهم، وكان الواجب عليهم أن يقولوا: اعرضوا علينا هذا الحق لننظر فيه، فإننا نبحث عنه، اعرضوا علينا ما جئتم به لننظر فيه أهو من الحق أم من الباطل إذا كانوا في شك؟ وهنا سنعلم سبب كفرهم وشكهم، فسبب ذلك يظهر لنا أمراضاً في النفوس سوف تظهر جلياً بعد حين، فقد حاولوا الطعن في الدعوة أولاً، بأن شككوا فيها، وأن الدعوة ليست ببينة ولا واضحة، مع أنه قد جاءت الرسل بالبينات، ولكنهم لا يرون هذه البينات بينات، فعند ذلك حاولوا الطعن فيها، وقد واجهت الرسل هذه المحاولة من التشكيك في رصيد هائل في الفطرة من وحدانية الله، فهذه القضية رصيد موجود في داخل نفس كل إنسان؛ لأن كل امرئٍ قد أخذ عليه العهد بقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}[الأعراف:١٧٢]، فكل واحد عنده هذا الأمر، وقد أشهده الله عز وجل على نفسه، فشهد أنه لا يستحق الإلهية إلا الله، وأخذ عليه العهد وهو في ظهر آدم، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك بي)، وهذا العهد والميثاق ظهر أثره في فطرة كل إنسان، ففيه ميل إلى تحقيق التوحيد، ويلقى شقاءً في البعد عنه، ويشعر بالراحة والسكون إذا ذكر الله، ويشعر بالتعاسة والتعب والنكد إذا توجه إلى غيره.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفطرة، فقال:(كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية:(يولد على هذه الملة).