للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محاسبة النفس والاستغفار]

ثم صفة أخرى من صفات أهل الإيمان، وهي: محاسبة النفس، والاستغفار، والمراجعة، وعدم إهمال النفس على ما فيها من أمراض.

إن المعاصي والذنوب والفواحش إنما هي دلالات على انحراف في داخل الإنسان أدى إلى ظهور خلل في العمل؛ لأن هناك تلازماً وارتباطاً مثيلاً بين الظاهر والباطن.

ولذلك فالمؤمن دائماً يفتش في نفسه، ويبحث عن أمراضه، ولا يسير في هذه الدنيا تائهاً لا يدري فيما عقل، ولا يدري فيما أطلق، بل دائماً يحاسب نفسه، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ)) فالذكر يؤدي إلى مراجعة النفس في الفواحش، وإلى مراجعة النفس في ظلمها لنفسها، وفي ظلم العبد لنفسه، قال تعالى: ((ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)) وإذا كانت الصلاة ذكراً لله فإنها تذهب السيئات، فلماذا لا تثمر هذه الصلاة عند أكثرنا إن لم يكن عندنا جميعاً هذا الأثر؟! لأنها خلت من ذكر الله، والذكر هو: حضور المذكور في قلب الذاكر، ثم التعبير عن ذلك باللسان، وليس تحريك اللسان فقط، لذلك فذكر الله عز وجل يؤدي إلى توبة الإنسان الدائمة، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)).

فلا بد أن تراجع نفسك وتحاسبها، وتفتش عن أمراضها وتبادر بعلاجها، ولا تترك الأمراض تستشري فتقع في أنواع المفاسد والبلايا وتسلط العدو، لأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذه المعاني وبين الهزيمة من الأعداء، لذا كانت هذه الآيات في أثناء سياق غزوة أحد، فمن الأهمية بمكان أن ننتبه لهذا المعنى، وهذه الصفات والمعاني عندما توجد فينا عندها ننتصر على عدونا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:١٣٥] فهو يعلم صفات ربه عز وجل، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو سبحانه وتعالى، وأنه يأخذ بالذنب؛ وهذا يدفعه إلى الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والاستغفار إذا أطلق فالمقصود به المقترن بالتوبة؛ لأن الاستغفار بغير توبة ناقص، وإذا وجد استغفار باللسان مع استهتار القلب بالذنب فهذا ذنب يضاف إلى ذنبه، كما قال بعض السلف: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

وقال بعضهم: المستغفر وهو مصر على ذنبه كالمستهزئ بربه.

وهذا كمثل إنسان تقول له: اتق الله ودع هذا الفعل المحرم، فيتناوله ويقول لك: سوف نستغفر الله، فهو يرى أنه قد أدى حق الله عليه وزيادة؛ لأنه قال: سوف أستغفر الله، وهذا حال الجاهل الذي يمن بالقبيح والناقص، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:١٧] فهو إسلام ظاهر بلا إيمان باطن ويمنون به! وأهل الإيمان الكمل يعرفون كيف يشكرون نعمة الله، ولا يمنون بها أبداً، لكن هذا حال الجاهل الضال، إما لزوال الإيمان أو لنقصه في قلبه، فيرى أنه لو استغفر الله فقد أدى ما عليه وزيادة، ولذلك هذا الاستغفار يحتاج إلى استغفار، لأنه كالمستهزئ بربه عز وجل.

وكثير منهم يستغفر أثناء ممارسة الذنب، لا على سبيل طلب المغفرة بل على سبيل السخرية ممن يأمره بالاستغفار، فهذا بلا شك استهزاء والعياذ بالله! أما أهل الإيمان فهم يستغفرون الله عز وجل لذنوبهم، مع اقتران ذلك الاستغفار بالتوبة إلى الله عز وجل، ولذا ذكر كل واحد منهما كما في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:٩٠] فالاستغفار لما مضى، والتوبة للعزم والثبات على الطاعة في المستقبل، وعلى ترك المعصية في المستقبل، أو قد يقال: إن التوبة عمل القلب، والاستغفار عمل اللسان، فالاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: الوقاية من أثر الذنب، فيطلب أن يستره الله فلا يفضحه، ومن ستره الله عز وجل في الدنيا ولم يفضحه فذلك من علامات إرادة الله بالعبد خيراً في الآخرة، وأن يغفر له ذنوبه.

وهذه الآية فيها ذكر عدم الإصرار، فدل على أن هذا مصطلح شرعي قرآني، فلابد من العزم على ألا يعود إلى الذنب، والله قد نفى عن المؤمنين الإصرار.

وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، وهذا القول عليه أكثر أهل العلم، فالإصرار على الصغيرة يلحقها بالكبيرة؛ لأن الله وصف أهل الإيمان بأنهم لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.

والإصرار غير الاستحلال والإباء والتكرار، فكثير من الناس تختلط عليه هذه المصطلحات، لأن بعضها مصطلحات وردت في الكتاب والسنة، وبعضها مصطلحات استعملها أهل العلم كالاستحلال مثلاً، فالاستحلال لفظ استعمله أهل العلم استنباطاً من الكتاب والسنة، وهو: اعتقاد العبد حل الذنب مع بلوغه الحجة، وهذا الاستحلال -حتى ولو لم يفعل الإنسان ذنباً مكفراً- يجعل العبد يخرج من الملة، فإذا استحل ما قامت عليه به الحجة بأن الله حرمه، أو استحل ترك ما بلغته الحجة أن الله أوجبه، فهذا والعياذ بالله كفر.

والإباء مصطلح شرعي، قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٣٤] وهو: رد الحق ورفض الانقياد القلبي له والعياذ بالله! فهو يرده ولا يقبله، ولا يخضع لأمر الله عز وجل، فهو قد علم أمر الله ولكنه لا يقبل أن ينقاد له، فهو ليس عنده قبول وانقياد باطن، وهذا مثله كمثل إبليس الذي قد علم أن الله أمره بالسجود لآدم، كما في قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:٦٢]، فهو يعلم أن الله قد كرم آدم عليه، وأمره بالسجود له، ومع ذلك {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:٣٣]، فرفض شرع الله وأمره، وما أكثر من يرى أن أمر الله لا يلزمه حتى ولو علمه! فالإباء يكون مع علم القلب، والاستحلال يكون مع زوال علم القلب، أي: أنه لا يصدق أن الله حرم كذا، أو أوجب كذا، مع قيام الحجة عليه، وإعراضه كان هو سبب استحلاله للحرام، أو استحلاله لترك الواجب الذي قد بلغته حجة وجوبه، فهذا يزول معه علم القلب وتصديقه بأن الله أوجب كذا أو حرم كذا، أما الإباء فيكون معه علم بأن الله عز وجل أوجب، وأن الله عز وجل حرم، ثم يرى أن أمر الله لا يلزمه نعوذ بالله من ذلك، كإبليس وغيره من الرافضين لشرع الله سبحانه وتعالى، الآبين المستكبرين، والاستحلال والإباء كفر والعياذ بالله.

أما الإصرار فليس بكفر إذا لم يكن الذنب مكفراً، فهو ليس له علاقة بالكفر ابتداءً، لكن يزيد في العقوبة، وليس هو الذي يجعل الذنب مكفراً، والإصرار معناه: العزم على ألا يتوب، وهذا الإصرار يعرفه الإنسان من نفسه أولاً، بأن يعزم أن يرجع إلى الذنب متى ما قدر عليه حتى ولو كان لا يباشره الآن، بل ربما لم يفعله من قبل، ولكنه عازم عليه، فهو كالحريص على قتل صاحبه، فهو في النار عقوبة له على عزمه الأكيد، وأخذه بالأسباب التي يقدر عليها في قتل أخيه، ولذلك يعاقب معاقبة القاتل وكأنه قتل، وإن كان ربما أقل منه في الدرجة، إلا أنه معه في النار والعياذ بالله، وكأصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون، فهذا إصرار على معصية؛ لأنه عزم عزماً أكيداً، ولا يحدث نفسه بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل.

والإصرار يجعل المصر الذي تقول له: تب إلى الله، فيقول: أنا لا أستطيع أن أمتنع عن الذنب، وسوف أظل على هذا الذنب، وأنا عاجز عن التخلص منه، وهو ليس بعاجز، فهو قادر على أن يتوب ويقلع عما هو فيه؛ لأنه مكلف به، أو يقول: لن أتوب الآن، وحتى ولو قال: إلى أن أموت، فهذا ليس بكافر، خلافاً لأهل البدع الذين قالوا: من عزم في قلبه على أن يظل مصراً على الذنب إلى أن يموت فهو كافر والعياذ بالله، ومخلد في النار، وهذه من ضلالات المعتزلة والخوارج وأشباههم ممن سار على طريقتهم.

وقد يكون إصراره مع تكرار الذنب، وقد يكون مع عدم تكراره، فالذي يعزم أن يعود إلى الذنب فإنه مهما أمكنه ذلك ولو كان الآن مقلعاً عنه فهو مصر.

ومن تكرر منه الذنب وهو عازم على أن يعود فهو مصر، لكن إن تكرر منه الذنب وهو يتوب بين الذنب والآخر، فهذا متكرر منه الذنب، فهذا ليس بمصر طالما أنه يجدد التوبة إلى الله سبحانه وتعالى.

والدليل على عدم تكفير المصر على المعصية ولو كانت كبيرة إلا أن تكون كفراً قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فعلَّق المغفرة فيما دون الشرك على المشيئة.

ولو كان الأمر متعلقاً بالإصرار وعدم التوبة لما كان التائب من الشرك مغفوراً له، لو قلنا: إن معنى الآية ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) أي: لمن تاب، ولكان معنى الآية: إن الشرك لا يغفر نهائياً ولو تاب؛ لأنه قسم إلى: شرك وما دون ذلك، إذاً: الشرك لا يغفر، وما دون ذلك يغفر الله لمن يشاء.

وعلى هذا فالتعليق على المشيئة في قوله: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) هل هي في التائب أو في غير التائب؟ في غير التائب، والآية نص في الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون المصر على السيئة، وهذا هو الفرق بين أهل السنة وبين المبتدعة من الخوارج والمعتزلة، إذ أن الخلاف ليس فقط في ارتكاب الذنب، وإنما الخلاف والنزاع فيمن مات مصراً، وإلا فإن الخوارج يقولون: إن التائب من الذنب والكبيرة مسلم وقد يغفر له، والمعتزلة يقولون ذلك، فلا أحد يشك في التائب، وإنما المنازعة فيمن مات مصراً، ولذلك فإن هناك فرقاًَ بين الإصرار وبين الاستحلال؛ لأن البعض يحصل عنده خلط في ذلك، فيرى أن الذي تقول له: تب إلى الله، ويقول لك: لا، لن أتوب الآن، فأنا لا أقدر على ترك الذنب، وأنا مستمر على ما أنا عليه، ودعك مني أجعلت علي رقيباً؟! فيتجرأ ليكفره فيقع في الضلال، الذي هو شر من ضلال الإصرار على الذنب، فإن البدعة شر والعياذ