للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شجاعة أنس بن النضر في أحد]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:١٤٩ - ١٥٥].

قال ابن كثير رحمه الله: [وقوله تعالى ((ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)) قال ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، -أحد بني عبيد بن النجار- قال انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يجلسكم فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنهم].

إنه موقف عظيم القدر من أنس بن النضر رضي الله عنه، وكلمات أغلى من الذهب قالها: (فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه)، وهي منهج لحياة المؤمن، فهو ظل يجاهد في سبيل الله حتى يموت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قيلت في سياق الجهاد والقتال إلا أنها أعم من ذلك، وهي في كل مواقف المسلم.

وتدل هذه القصة -رغم أنها مرسلة- على شدة الحال الذي وصل إليه الصحابة رضي الله عنهم، الذي يجعل أناساً من المبشرين بالجنة يجلسون ويتركون القتال لما صرخ الشيطان: إن محمداً قد قتل، إلا أن هذه الكلمات من أنس أثرت فيهم أعظم تأثير، فقاموا وقاتلوا ودافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا من أشد الناس في هذا الموقف عطاءً وبذلاً وتضحية رضي الله عنهم، كحال طلحة عند أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى شلت بضربة من سيف.

وروى البخاري عن أنس بن مالك: أن عمه -يعني: أنس بن النضر - غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: مشهداً- ليرين الله ما أصنع، فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -أي: المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -أي: المشركون- فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: إلى أين يا سعد؟ إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه أو بشامة، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم، هذا لفظ البخاري، وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه.

وهذا الموقف من أعظم فضائله، وهو الذي أنزل الله فيه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٢٣] هذا هو الصدق مع الله عز وجل، فـ أنس بن النضر غاب عن غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوعب النفير فيها، وإنما خرج على عجالة يريد إدراك القافلة، فتأسف رضي الله عنه عن غيابه عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين، وهكذا هو حال المؤمن دائماً يحزن على فوات الخير، وعلى فوات بعض العبادة، فهو يريد أن يكون سباقاً إلى طاعة الله عز وجل.

يقول: غبت عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع.

هاب أن يقول غير ذلك حتى لا يكون مزكياً لنفسه ولا يفي، ولكن كان في نيته أن يجاهد أعظم الجهاد ووفى بعهده مع الله، وقضى نحبه كما قال الله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:٢٣] أي: عهده ونذره، فهو قد عاهد الله بهذه الكلمة: (ليرين الله ما أصنع) أي: من الجهاد والقتال في سبيله، فقد صدق مع الله عز وجل، وقضى نحبه وعهده، فقاتل حتى قتل فلقي يوم أحد العدو فهُزم الناس، أي: المسلمون، وانصرف أناس من المعركة، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وهذا موقف المسلم دائماً يعرف الفرق بين المسلم والكافر، فهو وإن كان الفرار كبيرة من الكبائر لكن المسلم يعتذر عنه؛ لأصل إيمانه، بخلاف الكافر فإنه يتبرأ منه، لذا نجد أنساً يبرأ إلى الله عز وجل من الكافر ومما جاء به، فإنهم جاءوا للصد عن سبيل الله، والمسلم وإن ارتكب المعاصي فإنه يعتذر عنه؛ لأن أصل إيمانه لا بد أن يراعى ويحب لأجله، بخلاف المنافقين فإنهم كما وصفهم الله عز وجل يسلقون المؤمنين بألسنة حداد، وتجدهم بحاثين عن عوراتهم، همازين لمازين، ويعيبون المؤمنين بما ليس من صفاتهم، وإنما يدعون عليهم صفات السوء ليعيبوهم بها، وفي نفس الوقت يتولون المشركين.

فأما المؤمن الصادق يعتذر إلى الله عز وجل عن إخوانه المسلمين، ويدعو الله عز وجل أن يغفر لهم، وحبه لإخوانه في الله يجعله يريد دائماً أن يرحمهم الله وأن يغفر لهم؛ ولذا يعتذر عنهم، وأما بغضه للكافرين فمستقر ثابت، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، أي: المشركون، وهكذا موقف المؤمن فهو يتبرأ من الشرك وأهله ومما جاءوا به، وأما الزنادقة المنافقون فهم أولياء المشركين: يؤيدونهم، ويطيعونهم، ويعاونونهم على أهل الإسلام.

ومن فضائله رضي الله عنه: أنه لقي سيد الأنصار سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن فرحاً بقدومه، والذي مناديله في الجنة خير من الحرير رضي الله تعالى عنه، وهو أفضل الأنصار ومع ذلك كان قد جلس ضمن الجالسين فشجعه أنس بن النضر وثبته، وأمره بمواصلة الجهاد رضي الله تعالى عنه، فقال: (أين يا سعد؟) يعني: أين تذهب أين تترك المعركة؟ وهذه اللحظات التي مرت على هؤلاء الأفاضل تجعل المؤمن لا ييئس إذا أصابه شيء من التقصير ومن النقص، ولكن يبادر ولا يدع مدة الفتور تستمر معه، هذه اللحظات تطول وتقصر مع الناس تفاوتاً كبيراً.

فكثير من الصحابة جلس تاركاً للقتال في ميدان المعركة ثم عاد إليها قبل أن ينصرف.

وهذا طلحة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) وكذا أبو بكر وعمر لم يتركا النبي صلى الله عليه وسلم حين رأياه بعد ذلك، وجماعات من الصحابة رضي الله عنهم، وكان منهم سعد بن معاذ وغيره فكانت هذه اللحظات التي تصيب الإنسان من فتور أو من يأس، أو من شبهة أوقات محدودة، ودقائق معدودة تزول بسرعة عند تذكر معاني الإيمان، وبوجود ناصح صادق مثل أنس رضي الله عنه، فكان موقفه هذا من أعظم العوامل والأسباب التي أدت إلى ثباتهم، وارتفعوا مراتب عالية بعد توقفهم هذه اللحظات.

فالخطر أن يستمر الفتور، فالفتور وترك الطاعة واليأس أمر عظيم الخطر، وهذه اللحظات ربما مرت على الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لكنها كانت كالبرق الخاطف، أعني: أنها لحظات يسيرة جداً تمر ثم ترحل سريعاً، فيشكون فيها إلى الله عز وجل ضعف القوة، وقلة الحيلة، وهوانهم على الناس وهم الأعزة عنده عز وجل، ويشكون إليه سبحانه وتعالى أنهم مغلوبون، ويستنصرون به.

فعند الرسل تكون كالبرق، وعند أصحابهم ربما كالدقائق المعدودة، وربما تطول مع البعض، وهذا الذي يجب أن نقاومه ولا نترك أنفسنا لهذا اليأس ليفترس قلوبنا ويغترس معاني الإيمان فيها، وذلك بحسن الظن بالله وبالثبات، وباليقين بوعد الله عز وجل.

وانظر إلى يقين أنس وهذه الكرامة التي أكرمه الله عز وجل بها، قال: (أين يا سعد؟ إني لأجد ريح الجنة دون أحد) فهذه كرامة، فهو صادق رضي الله عنه في أنه بالفعل وجد رائحة الجنة دون أحد أي: أقرب