للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اصطفاء الله شهداء من الناس]

قال تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) حكمة أخرى بالغة عظيمة: يتخذ الله عز وجل شهداء، ويدخل في هذا موت من مات، وقتل من قتل؛ لأنه لم تذكر صيغة (قتل المشركون المسلمين) إنما قال: ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، فالله عز وجل هو الذي يتخذ، وتأمل هذه الآيات من أولها: قال تعالى: ((نُدَاوِلُهَا)((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ){وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:١٤١] كلها أفعال الرب عز وجل.

((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)) فالله هو الذي اتخذهم! الله الذي اجتباهم! الله الذي اختصهم! الله الذي اختارهم لهذه المنزلة! منازل عند الله عز وجل في الجنان لا تبلغها أعمال العباد، يقدر الله عز وجل عليهم من أنواع البلايا والمحن، ويقدر لهم -أقول لا عليهم- أن يثبتوا عندها، وأن يضحوا في سبيل الله إلى أن تبلغ التضحية بالأنفس التي هي أغلى ما عند الإنسان، وما يملكه الإنسان، فكل شيء بدون النفس لا يساوي شيئاً، ماذا يصنع الميت بالمال؟! ماذا يصنع بالشهوة؟! ماذا يصنع بالأهل والأولاد؟! كل ذلك قد ضاع من الميت، الشهيد قد ضحى بذلك كله حين ضحى بنفسه في سبيل الله، فالله قد كتب له وثبته حتى قتل شهيداً في سبيل الله؛ ليشهد على الناس يوم القيامة؛ وليشهد منزلته في الجنة، فسمي الشهيد شهيداً لأنه يشهد دار الكرامة وما أعد الله له فيها، بل يستمتع فيها في برزخه؛ ولأنه شهيد على الناس، وهذه الشهادة أمر عظيم، فهي اجتباء من الله عز وجل واختيار، فكم طلبها طالبون! وكم كان منهم صادقون! وكم كان منهم غير صادقين! لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء).

هذه الشهادة ليست فقط فائدة عظيمة الأهمية للشهيد نفسه، بل هي فائدة عظيمة الأهمية لا يمكن أن تتقدم الطائفة المؤمنة إلا بها، فهي فائدة للمؤمنين جميعاً، وللطائفة المؤمنة في وقتها، فبالبذل والتضحية تسير القافلة، وبدون بذل ولا تضحية لن يتحرك أهل الإسلام خطوة واحدة، وهذا أمر مشهود والله، دماء الشهداء التي تسيل في معارك أهل الإسلام مع أعدائهم هي الوقود الذي تسير به الطائفة المؤمنة، وهي الوقود الذي يزداد به الإيمان في قلوب الباقين، وتزداد الرغبة في التضحية بدون الشهادة في سبيل الله عز وجل، وبدون البذل والتضحية، وبدون الجرح والألم لن يحصل تقدم، ولن توجد الأسوة الحسنة، ولن تنجذب القلوب بمثل ما يحصل عند وجود هذه التضحية العظيمة، فعندما نسمع نحن قصص الشهداء عبر التاريخ تتحرك القلوب حركة عظيمة للبذل والتضحية في سبيل الله، والعمل بطاعة الله عز وجل، والاستهانة بالدنيا، وعدم الاستكانة للعدو، ومزيد من الثبات والالتزام بفضل الله عز وجل.

((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، هذه منازل عالية، أعلى المنازل بعد النبيين والصديقين، فالله عز وجل قد جعلهم بأفضل المراتب عنده سبحانه وتعالى لما بذلوا أنفسهم في سبيل الله عز وجل.

((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) حتى لا يتوهم متوهم أن ما قدره الله من تمكين الكفرة، ومن قتل خيرة خلقه بعد أنبيائه والصديقين من أتباعهم أن ذلك حباً من الله عز وجل للظالمين، كما قد يظن كثير من الناس أن كل نعيم دنيوي هو علامة على حب الله لهم.

{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:١٥ - ١٧] ليس هذا هو مقياس الإكرام ولا الإهانة، أكثر أهل الدنيا يرون الله قد أكرمهم وأنه يحبهم حين أعطاهم شيئاً من الدنيا، فهؤلاء الظلمة يرون أنفسهم مقربين عند الله؛ لأن الله أعطاهم السلطان والتمكن من المؤمنين حتى تمكنوا من قتلهم، ولذلك عقب عز وجل فقال: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) فلا تظنوا أن تسليط الله عز وجل الكفرة على المؤمنين حتى يقتلونهم شهداء أن ذلك حباً من الله عز وجل للظالمين، لا والله! الله لا يحب الظالمين، وهذا أعظم تحذير من الظلم، أن الله لا يحب الظالمين، فلا بد أن من أبغضه الله عز وجل أبغضته الخلائق كلها حتى نفسه تمقته؛ لأن الله لا يحبه ومقته عز وجل، فمن هان على الله حتى جعله ظالماً فهذا أحقر الخلائق وأضلها وأبخسها حظاً نعوذ بالله! قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:١٠] فالكافر يمقت نفسه حين كفر بالله عز وجل.

((إِذْ)) حين {تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:١٠] ويمقته من حوله من البشر: (إن الله إذا أبغض عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه؛ جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه؛ فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض).

لا تظنوا أن من حول الظلمة من أهليهم أو أولادهم أو جنودهم أو أعوانهم يحبونهم، لا والله ثمرة من ثمرات: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) أن البغضاء تملأ قلوب بعضهم لبعض، بعضهم يكره بعض، حتى أنفسهم كما ذكرنا تكرههم، حتى الجدران والحيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأما المؤمن فيستريح من نصب الدنيا وتعبها، وأما الكافر فيستريح منه البلاد والعباد، والشجر والدواب)، كل العباد والبلاد حتى الأرض نفسها، وكل ما كان من جنسها تكرههم، الأرض التي يمشون عليها تكرههم، وتستريح منهم عندما يموتوا قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:٢٩] كائنات لها إدراك! لها شعور! تكره الكافر والظالم فضلاً عمن جعل الله في قلوبهم أصلاً كمال الإحساس الذين هم البشر، فلا بد أن يكره بعضهم بعضاً، وإن ظهر في ظاهر الأحوال حب عظيم، وتفخيم وتكبير لهم، واستعداد أنهم يموتون في سبيلهم، ومدح وثناء وغير ذلك من أنواع التعظيم الدنيوي، لكن يفعل ذلك وقلبه مليء بالمقت والكراهية.

((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) فإياك أن تظن أن هذا الذي قدره الله من أن يسلط الكفرة على المؤمنين ليقتلوهم وينتصروا عليهم أن ذلك لأن الله يحبهم! لا والله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) بل الله هو الذي اتخذ شهداء؛ لأنه لا سبيل إلى وجود هذه التضحية العظيمة بالنفس وبالدنيا بأسرها إلا بأن يتسلط الكفرة على أهل الإسلام، فهذه العبوديات التي وقعت لا سبيل إلى وجودها إلا بأن يقدر الله الأمر المكروه، فمن أجل المحبوب قدر الله المكروه، ومن أجل أن يتعبد له أهل الإيمان بأنواع العبودية -في عسرهم وفي مكرههم وفيما يسوءهم، ويبذلون في سبيل الله عز وجل ما أعطاهم سبحانه وتعالى حتى الحياة نفسها يبذلونها- قدر الله ذلك، لا حباً للظالمين ولا رضاً بالظلم: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)).

فائدة أخرى ذكرها ابن القيم رحمه الله في قوله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)): تحذير من ترك ما أوجب الله عز وجل على عباده -كأنه يراها تحذيراً لأهل الإيمان- عن أن يظلموا أنفسهم بترك الطاعة في فترات الشدة، كمن فر، فالله لا يحب من عصى، ولا يحب من ظلم، لكن الفائدة الأولى أقرب إن شاء الله وأولى، والثالثة ليست ممتنعة.